تضخم وركود.. أم ركود وتضخم؟ أم ماذا..؟ - محمد عبدالشفيع عيسى - بوابة الشروق
السبت 28 ديسمبر 2024 11:04 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تضخم وركود.. أم ركود وتضخم؟ أم ماذا..؟

نشر فى : الخميس 22 أغسطس 2024 - 7:25 م | آخر تحديث : الخميس 22 أغسطس 2024 - 7:25 م

يقال «تَضَخّم» الشىء أى كبر أو نما، أو زاد حجما أو كتلة أو وزنا، أو غير ذلك؛ وقد استعار الاقتصاديون لفظة «التضخم» من اللغة الأدبية ليصير علما من العلم الاقتصادى، فقيل «التضخم الاقتصادى»، وهو ما يقابل اللفظة الإنجليزية inflation وكأنه «تورّم».
ولما دخلت لفظة التضخم فى الاقتصاد كمصطلح علمى أصبحت تستخدم بمعنيين: المعنى الأول هو التضخم النقدى أو «النقودى»؛ والثانى هو «التضخم السعرى»، وهو بهذا المعنى ويجرى بمجرى (الارتفاع المتواصل فى الأسعار). أما حدود هذا الارتفاع فى الأسعار أو «التضخم السعرى» فإن له مقابلات عديدة، فإن كان تضخما يجرى فى الحدود المعتادة، دون تأثير ملحوظ على المتغيرات الاقتصادية الأساسية (خاصة الناتج والدخل والادخار والاستثمار والتصدير والاستيراد)، فإنه حينئذ تضخم وكفى، أى inflation.
أما إن اشتد تأثير (التضخم) على المتغيرات الاقتصادية، فإنه أيضا يكون متنوعا، ما بين تضخم محدود، وآخر مرتفع، وربما متقلب، ثم يصل إلى حدّ ما يسمى «التضخم الجامح» hyper inflation، وقد يبلغ ذلك (الجموح) منتهاه فيكون الاقتصاد القومى كله على شفا الانهيار التام، أو ما يسبقه بقليل، كحال الاقتصاد الألمانى غداة الحرب العالمية الأولى مباشرة، حين تركت الدول المحاربة ألمانيا تلفظ أنفاسها دون عون أو رقيب، حتى جاء (هتلر) فى ثلاثينيات القرن المنصرم ليعيد (الكرامة المبعثرة) من خلال إشعال فتيل العنصرية الألمانية العتيدة، وإطلاقها على ما جاورها من بلدان أوروبا الشرقية، ثم على ما يتلوها جغرافيا أو (جغرا ــ سياسيا) حتى جرى ما جرى مما نعلمه جميعا.
ولكن ذلك لم يكن الحال حينما هُزمت ألمانيا فى الحرب العالمية الثانية (أيضا..) فسارع كبار العالم آنئذ، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وأطلقوا «مشروع مارشال» لانتشال ألمانيا خصوصا، وأوروبا عموما، من وهدتها العميقة إلى حيث مهدت لما جرى من تطور اقتصادى لافت فيما بعد. هذا بينما تم تخصيص «الفتات» للبلاد التى سميت «النامية» بعد الحرب من خلال تخصص للمعونة تحت بند «النقطة الرابعة» لمحاولة مساعدتها (قدر الإمكان).
• • •
ما زلنا نتحدث عن «التضخم الاقتصادى» موجهين حديثنا، كله أو جلّه إلى الاقتصادات الغربية عموما، والأوروبية خصوصا، لأسباب متعددة. فى مقدمة هذه الأسباب توفّر (سلاسل زمنية منتظمة)، إلى حد كبير، للبيانات الاقتصادية عن الغرب وأوروبا. وقد أنتج هذا التوفر للبيانات والاهتمام الأكاديمى بها، نظرية أو (شبه نظرية) كاملة سميت بالدورات الاقتصادية أو التجارية أو دورات الأعمال Business Cycles، حيث قيل إن هناك نوعين من الدورات، أو هما دورتان اثنتان يتعاقبان على الاقتصاد أيّا كان: دورة من التضخم تتسم خاصة بارتفاع الأسعار، تتلوها دورة من «الركود» أو «الكساد»، يقابل أو يناقض الدورة التضخمية السابقة فيما قد يعتبر Deflation.
هذه (النظرية) التى قيل لها (نظرية الدورات) احتفل بها المفكر الاقتصادى العالمى (الغربى إلى حد كبير) احتفالا شديدا دون عناية تذكر بالتطورات الاقتصادية فى البلدان (حديثة الاستقلال) فى عهد «ما بعد الاستعمار» لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث خصصت لها شبه نظرية «بائسة» هى (نظرية النمو الاقتصادى) منذ أوائل خمسينيات القرن المنصرم حتى وقت قريب أو بعيد. وفى أوائل ثم منتصف الستينيات أخذت تتشكل معالم (نظرية) فى التنمية، وخاصة على وقع (فكرة المركز والمحيط) التى أبدعها باحثو (اللجنة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية) بزعامة راءول بريبيش. ثم ما لبثت أن اكتملت (النظرية) إلى حدّ كبير، على أيدى (مفكرى مدرسة نقد التبعية) مثل أوزفالدو لدو سونكل وسمير أمين وسلسوفرتادو، وأندريه جون فرانك مؤلف (التراكم التابع) Dependent Accumulation حتى الرئيس الحالى للبرازيل «لولا دا سيلفا». وليس هنا مقام التوسع فى هذا البحث، فله مكانة الآخر.
لكن لم تجد الدول (النامية) (التابعة) منذ الخمسينيات حتى الآن تقريبا، ما يسعفها بنظرية فى التضخم أو الركود أو الدورات الاقتصادية، فظلت اجتهاداتها الفكرية تراوح مكانها بينما ظل الفكر الاقتصادى الغربى (العالمى) يتوسع وينتشر حتى اكتسح الميدان كله اكتساحا.
وتحت هذه المظلة الوارفة انتقل الفكر الاقتصادى الأوروبى ليقيم نواة نظرية أخرى، ولدت أو كبرت بعد (الحرب العسكرية والبترولية) العربية لعام 1973، وهى ما سميت بنظرية (التضخم الركودى) كمزيج غير متبلور أو منتظم لمركب من شقين، التضخم والركود ــ ذلك هو Stagflation.
• • •
لكن ما سبق كله تقريبا كان عن التضخم، فماذا عن الركود؟ بينما تلقّت أبحاث التضخم دفعة كبيرة منذ الحرب العالمية الأولى، فإن أبحاث الركود تلقت دفعة (عملاقة) مع انبلاج أزمة (الكساد العالمى الكبير) منذ ذلك (الخميس الأسود) عام 1929 حتى 1933.
فقد أعقب التضخم ركود شديد ممثل فى البطالة الواسعة، وانكماش الإنتاج والدخل، وتناقص الطلب. ومن ثم انبثقت نظرية جديدة كاملة لمحاربة الركود، أبدعها الاقتصادى البريطانى (جون ماينارد كينز) فى كتابه العمدة عن (التوظف والفائدة والنقود).
ولما كان الركود ــ إلى حد كبير ــ ثمرة لانكماش الطلب فى مواجهة (العرض) الآخذة فى الانكماش أصلا، فلذلك جاءت ما سميت (نظرية كينز) كنظرية فى (الطلب الفعلى) Effective demand وقوامها بث الروح فى روافع الطلب (الفعلى) فى المجالين النقدى والمالى، على نحو ما هو متداول فى أدبيات نظرية كينز التى تلتها أعمال تلامذة كينز وأتباعه المخلصين بتجديد قوامه (تكميم) الطلب الاستثمارى خاصة، على يد (هارود) وزميله (دومار)، ومن عملهما نجم العمل على معادلة (هارود ــ دومار):
معدل النمو = معدل الاستثمار:
مقسوما على: معامل رأس المال/ الناتج
.. ذلك، وإننا فى العالم (النامى) عادة، وبلدان الوطن العربى خاصة، ومصر العربية بصفة أخص، بعيدون، أو ما زلنا بعيدين، عن حقل التشكل والتشكيل الفكرى ــ والنظرى ــ فى كل المجالات، بما فيها مجال الفكر الاقتصادى، بل والتنموى، إذ نستعير من الخارج ما نستعين به على فهم واقعنا المعقد. فهل لنا أن نقيم أعمدة (نظرية) فى التعاقب الاقتصادى، فى إطار التنمية ومقاومة التبعية، على النحو المنشود..؟
حاول البعض أن يجتهد اجتهادا فى ذلك المسعى، وفى مقدّمتهم (الدكتور رمزى زكى) الذى ألف كتابا كاملا عن مشكلة التضخم الاقتصادى، ودبّج دراسة داخل معهد التخطيط القومى ضمن سلسلة (قضايا التخطيط والتنمية) فى ذلك الأمر أيضا. وقد أبدع فقال إن للتضخم ثلاثة أسباب تناظرها ثلاثة وجوه: السبب (والوجه الأول) ما يمكن أن يطلق عليه (التضخم الهيكلى) حيث نجد تضخم الأسعار والنقود (حيث التضخم ــ نقديا ــ يمكن تعريفه أدبيا بأنه ناتج الحالة التى تكون فيها: نقود كثيرة تطارد سلعا قليلة). وفى الوجه الهيكلى يكون «التضخم» وليد اختلالات هيكلية مزمنة فى باطن الاقتصاد القومى، لاسيما سلسلة العرض بالذات. ثم هناك الوجه والسبب ــ النقدى حيث يكون التضخم وليد التوسع الزائد فى القاعدة النقدية بما يجاوز طاقة الناتج المحلى الإجمالى، فتنتفخ فقاعة الأسعار إلى ما شاء الله. والوجه ــ السبب الثالث ــ للتضخم هو ما يمثل (التضخم المستورد) لاسيما تحت وطأة ارتفاع تكلفة الواردات، واستقبالها دون ضوابط داخل الاقتصاد المحلى. ونحن نرى أن هذه البلورة الفكرية تصلح أساسا لبناء نظرية (عالم ــ ثالثية) أو (عربية)، فى التضخم. ونضيف إليها أن أحوالنا الراهنة فى مصر، تشير إلى الأهمية المنوطة ــ إلى جانب الثلاثية السابقة ــ بمعضلة سعر الصرف، لاسيما سعر صرف الدولار الأمريكى مقابل العملة المحلية ــ الجنيه. وتلك قصة كاملة أخرى. ولا يبقى إلا أن نشير إلى أن المشكلة الاقتصادية المصرية فى جوهرها، هى مشكلة ركود، أكثر منها مشكلة تضخم. ذلك أن ارتفاعات الأسعار وتعاظم عرض النقود بمختلف أنواعها، هى مجرد مظاهر فوق السطح لجوهر عميق، هو تباطؤ حركة الدولاب الاقتصادى، واختلالات هيكل الناتج المحلى الإجمالى المائل باتجاه قطاعات الموارد الطبيعية على حساب التصنيع العميق والخدمات التكنولوجية المرتبطة فى الحالتين بالتخلف عن إشباع الحاجات الأساسية للأغلبية الاجتماعية الساحقة، ماديًا وروحيّا.
هو ركود إذن يسبق التضخم ويدفعه ويغذيه، ولو شئنا لقلنا (ركودا تضخميا) قبل أن نقول إنه «تضخم ركودى». وتلك قصة أخرى أكثر اتساعا.

محمد عبدالشفيع عيسى أستاذ باحث في اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية
التعليقات