الوضع العالمي ومديونية الأسرة - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 1:52 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الوضع العالمي ومديونية الأسرة

نشر فى : الإثنين 23 يناير 2023 - 7:10 م | آخر تحديث : الإثنين 23 يناير 2023 - 7:10 م
يعيش العالم اليوم ظروفا استثنائية، فعلى خلفية تداعيات كورونا والإغلاق، وتغير المناخ، واندلاع الحرب الروسية ــ الأوكرانية، والتشديد النقدى من قبل عدد متزايد من البنوك المركزية حول العالم وفى مقدمتها الفيدرالى الأمريكى، فإن تكلفة الديون والفوائد الناشئة عنها ستغل من أيدى الحكومات دون الإنفاق على الاستثمارات العامة الحافزة للنمو. كما يمكن للديون المتراكمة أن ترفع مخاطر الاقتصاد الكلى، وتقلل الجدارة الائتمانية، وتحد من قدرة الاقتصادات على إعادة تمويل (أو حتى استمرار تمويل) الديون المستحقة فى المستقبل. هذه المخاطر، إذا تحققت، يمكن أن تؤدى إلى اضطرابات اقتصادية أخرى مثل انخفاض قيمة العملة، والتضخم الجامح، وهروب رءوس المال، ومن ثم مزيد من أزمات التعثّر المالى.
كذلك أدى الصراع فى أوروبا إلى نقص إمدادات الغذاء العالمية، حيث إن طرفى الحرب يشكلان معا مصدرا رئيسا لإنتاج وتجارة المواد الغذائية الاستراتيجية. هذا النقص فى الإمدادات تسبب فى ارتفاع الأسعار ببورصات السلع العالمية، وكان تأثيره كبيرا بشكل خاص على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، نظرا لارتفاع نسب الاعتماد على الغذاء المستورد فى معظم دول المنطقة.
تتميز دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمستويات عالية من نسب الاعتماد على الغذاء المستورد؛ يتراوح اعتماد تلك الدول على الواردات بين 40٪ لدول مثل مصر وإيران، وقرابة 100٪ لدول مثل الأردن ولبنان والكويت، وتخضع دول كبيرة مثل الجزائر واليمن والمملكة العربية السعودية لنسب عالية جدا من الاعتمادية الغذائية تتراوح بين 65٪ و80٪. يرتبط اعتماد دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على الواردات بشكل كبير من كل من أوكرانيا وروسيا، مما يضاعف من تأثير الأزمة.
• • •
كان لمزيج تلك العناصر عواقب سلبية للغاية على الدين الخارجى لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كما يتضح من حركة التدفقات المالية دوليا؛ حيث تلقت المنطقة أقل قدر من التدفقات الدولية فى عام 2020، والتى وردت بشكل شبه حصرى من خلال المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولى. وتظهر معدلات العائد المرتفعة على أدوات الدين أن استدامة الديون الخارجية للمنطقة تتعرّض لمخاطر حقيقية، حيث تقع العديد من دول المنطقة عند عتبة مخاطر التخلف عن السداد أو تتجاوزها، مما يعنى أنها فى منطقة احتمالية التخلف عن السداد. وقد تجاوزت كل من تركيا وتونس مستويات تلك العتبة، بينما يهدد التخلف عن سداد الديون لبنان بوضع الدولة الفاشلة، من خلال واحدة من أكثر الأزمات المالية إثارة وعمق فى التاريخ، والتى تفاقمت بسبب مزيج من انخفاض قيمة العملة، والتخلف عن سداد الديون الخارجية، وأزمة مصرفية مربكة.
لذلك ترى التقارير الدولية أنه ما لم تتغير سياسات إدارة الديون والأرصدة المالية بسرعة نحو الاستثمار بدلا من الاستهلاك، لتحسين الجدارة الائتمانية لاحتياجات التمويل الحالية والمستقبلية، فإن مخاطر الديون الخارجية على المنطقة ستكون أكبر من تداعيات ما عرف بالربيع العربى.
كل هذه التوترات تضغط على ميزانية المستهلك وتدفعه نحو الاقتراض بغية إشباع احتياجاته الأساسية من طعام وملبس ومسكن على النحو المعتاد قبل الأزمة... عالميا، تتمتع الأسر الأمريكية بوضع جيد نسبيا؛ فلا تزال خدمة ديون الأسر كنسبة مئوية من الدخل المتاح بالقرب من أدنى مستوى لها على الإطلاق عند مستوى 9.6٪. فقبل أن ينهار سوق الإسكان مباشرة فى عام 2007، كان يخصص أكثر من 13٪ من الدخل المتاح فى الولايات المتحدة لسداد الديون. وفى الصين استمرت ديون الأسر الصينية فى الارتفاع بوتيرة متسارعة، حيث سجلت 62٪ من الناتج المحلى الإجمالى بنهاية عام 2020. تلك الزيادة فى مديونية الأسر معززة فى المقام الأول بقروض التمويل العقارى، لكن القروض الاستهلاكية غير المضمونة، مثل بطاقات الائتمان، نمت هى الأخرى بسرعة فى السنوات الأخيرة. التوقعات تشير إلى أن أرصدة بطاقات الائتمان فى الصين قد بلغت نحو 8.6٪ من الناتج المحلى الإجمالى بحلول نهاية عام 2020، وهى نسبة تتجاوز نظيرتها فى الولايات المتحدة.
وبحسب تحليل أجرته «إندبندنت العربية»، بناء على بيانات من البنوك المركزية فى دول الخليج العربى، فإن القيمة الإجمالية للقروض الشخصية الممنوحة للأفراد فى المنطقة بلغت 303.2 مليار دولار، تمثل السعودية وحدها 30٪، تليها الإمارات بنسبة 29.3٪، ثم الكويت بنسبة 17.2٪، ثم قطر بنسبة 11.5٪، وسلطنة عمان 8.5٪، والبحرين 3.6٪. وبحسب التحليل، سجلت البحرين أعلى نسبة من القروض الفردية من إجمالى الائتمان المقدم من الجهاز المصرفى لجميع الأنشطة الاقتصادية بين دول الخليج الأخرى بنسبة 44٪، تليها الكويت 43٪، وسلطنة عمان 40٪، فى حين أنها 23.7٪ فى السعودية و21.6٪ فى الإمارات... وأخيرا قطر تبلغ 13.5٪. شكلت ديون القطاع العائلى فى المملكة العربية السعودية 12.1٪ من الناتج المحلى الإجمالى الاسمى فى سبتمبر 2022، مقارنة بنسبة 12.7٪ فى الربع السابق.
وفى مصر، بلغ حجم التمويل الاستهلاكى (من خلال القطاع المالى غير المصرفى) نحو 16.4 مليار جنيه خلال الفترة من يناير إلى يوليو 2022، مقابل 8.1 مليار جنيه خلال نفس الفترة من العام المالى الماضى. تصدرت الأجهزة الكهربائية والإلكترونيات نشاط التمويل الاستهلاكى فى مصر. تلك الأرقام ذات دلالة هامة على ضرورة تدخّل الرقيب المالى لمراقبة الانكشاف الكلى لكل المراكز الائتمانية المفتوحة بشكل صحيح، فى ظل نظام شامل لإدارة مخاطر الائتمانية. وأرى أن الإدارة الجديدة للهيئة العامة للرقابة المالية، تعير مزيدا من الاهتمام لجوانب إدارة المخاطر، عوضا عن إضاعة الفرص كدأب الإدارة السابقة.
أما تركيا فقد دأبت على إتاحة عوائد مجزية للمستثمرين الأجانب فى أدوات الدين، مع خفض أسعار الفائدة للمقترضين المحليين. كان ذلك مدعوما بالمستويات المرتفعة للسيولة العالمية، والتمويل السهل الرخيص الذى ميز السنوات الأولى من الألفية الحالية. مع زيادة قدرة الشركات التركية على الوصول إلى موارد مالية جديدة، حقق الاقتصاد التركى نموا بمعدل 7.3 فى المائة فى المتوسط من عام 2003 إلى عام 2008، لكن هذا النمو كان مصحوبا بتوسع فى مستويات مديونية القطاع العائلى التركى، مدفوعة بخيارات السياسة المالية التى فرضت على تركيا من قبل مؤسسات التمويل الدولية، والتى ألزمتها بالحد من الإنفاق الحكومى على السلع والخدمات العامة.
• • •
فى الختام بقى أن نشير إلى أن التحولات الاقتصادية الكبرى التى يشهدها كوكبنا اليوم، من شأنها أن تؤثر هيكليا على عدد من المتغيرات الاقتصادية. فالارتداد خلفا عن مسار العولمة، والتضييق على حركة انتقال العمالة، وتحديات التغير المناخى، واتباع الصين نموذجا جديدا لحفز النمو بمزيد من الاهتمام بالداخل عوضا عن التوجّه نحو التصدير، وإدراك البنوك المركزية مخاطر التسهيل الكمى وتأثيره السلبى على آليات عمل الأسواق.. كل ذلك من شأنه أن يصنع أزمة طويلة الأجل فى جانب العرض، وأن يحد من ظاهرة النقود الرخيصة والفائدة الصفرية لفترة من الزمن، وأن يرفع من مستهدفات التضخم، علما بأن الأزمات الأخرى التى سبق الإشارة إليها فى صدر المقال، من المرجّح أن تستمر فى الأجل القصير على أقل تقدير، وكل ذلك من شأنه أن يؤثر فى ميزانية الفرد ويجعله أكثر اعتمادا على الديون لإشباع حاجاته الأساسية.
مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات