منذ بضع سنوات كتبت مقالا مطولا تحت عنوان «تحديات الهوية فى دول مجلس التعاون». قلت بأن فداحة الموضوع يمكن تلخيصها فى بضعة أرقام: ففى سنة 1975 كان عدد مواطنى دول المجلس حوالى سبعة ملايين ونصف، وعدد الوافدين حوالى مليونين، أى ما يقارب 29% من السكان. أما فى سنة 2008 فقد أصبح عدد سكان دول المجلس حوالى ثلاثة وعشرين مليونا، بينما وصل عدد الوافدين إلى حوالى ستة عشر مليونا، أى ما يقارب السبعين فى المائة.
كان سبب الزيادة الهائلة ارتفاع عدد الأيدى الأجنبية العاملة المستوردة من مليون عام 1975 إلى 11 مليونا عام 2008.
وأشرت إلى ظاهرة مقلقة تمثلت فى أن غالبية الزيادة لم تكن فى عدد الوافدين العرب وإنما فى الوافدين الآسيويين غير العرب والذين قدر الدكتور حسين غباش فى مقال حديث له عددهم بستة عشر مليونا ونبه إلى أن عددهم سيصل إلى ثلاثين مليونا فى عام 2025.
وبالطبع فإن نسبة العمالة الأجنبية فى دول مجلس التعاون تختلف من قطر إلى قطر آخر، إذ هى فى أدناها فى المملكة العربية السعودية ونسبتها 40% وتصل إلى أعلاها فى قطر والإمارات العربية المتحدة حيث تقترب النسبة من 90%. فإذا أضفنا أن النسبة المئوية للعرب فى الأيدى العاملة الوافدة قد تناقصت من 72% عام 1975 إلى 32% عام 2004 أدركنا أننا نحن إذن أمام كارثة سكانية ستقود فى المستقبل القريب إلى كوارث سياسية واجتماعية وثقافية، وإلى تهديد وجودى للهويات الوطنية والقومية العروبية.
السؤال المفصلى هو: هل يدرك قادة أنظمة الحكم فى دول المجلس الأخطار الوجودية المنبثة فى أرجاء هذا الموضوع؟ هل يدركون أن عامل الجغرافيا لا يكفى للحفاظ على هوية مجتمعات المجلس إذا غابت أو ضعفت مستلزمات الهوية الأخرى من مثل اللغة والثقافة والعادات والعلاقات الاجتماعية، وهى بالطبع عوامل ستضعف وتتهمش كلما زادت نسبة الوافدين المستقرين من غير العرب؟
بل أكثر من ذلك: هل يضمنون بقاءهم فى الحكم عندما ينجح المجتمع الدولى فى تثبيت حق القوى العاملة فى التوطين والمواطنة لهم ولعائلاتهم بعد أن أقرت الأمم المتحدة منذ سنين اتفاقية حماية حقوق العمالة المهاجرة وأفراد عائلاتها؟ خصوصا بعد أن تبنت تلك المطالب منظمات من مثل منظمة التجارة الدولية والكثير من منظمات حقوق الإنسان.
ثم إذا كانت أموال البترول تستدعى الاستمرار فى التنمية الاقتصادية الخليجية، وفيها الكثير من نقاط الضعف والتشوهات، وبالتالى تستدعى الاستمرار فى استيراد العمالة من الخارج، فلماذا لا تكون غالبية القوى العاملة المستوردة من أقطار الوطن العربى بدلا من بلدان آسيا غير العربية؟
بل هناك سؤال آخر ملح يرتبط بهذه النقطة: لقد قاد الدمار الهائل الذى حل بالكثير من الأقطار العربية خلال العشر سنوات الماضية إلى هجرة الملايين من أفضل القوى العاملة فى تلك الأقطار.. هجرتهم إلى شتى بلدان الغرب، فلماذا لا تكون بلدان مجلس التعاون أحد تلك الملاذات التى تلجأ تلك الملايين إليها بدلا من ترك تلك الملايين يتيهون فى أصقاع الدنيا ويعيشون حالات الفقر والدمار الاجتماعى والأخلاقى؟ أين أخوة العروبة والإسلام ومروءة التاريخ والعيش المشترك؟ أليس استيراد العمالة العربية سيحافظ على هوية دول مجلس التعاون العروبية والإسلامية التى يهدد وجودها هذا الفيض الهائل من العمالة غير العربية، وبالتالى الفيض الهائل من المشاكل التى ستجلب معها؟
ما يحز فى النفس ويثير التساؤلات أن مجلس التعاون قد بحث منذ عدة سنوات هذه الظاهرة المقلقة وقرر أن تتبنى دول المجلس سياسة واحدة لمواجهة تزايدها وأخطارها. لكن قرارات المجلس بقيت مع الأسف فى الأدراج، بل إن السياسات المتعلقة بالموضوع أصبحت أكثر محلية وأكثر انغلاقا وأكثر استهتارا بالمصلحة الخليجية المشتركة وأمن أقطارها المستقبلى.
بصراحة، ما فائدة مجلس التعاون إذا كان لا يواجه ــ مجتمعا ــ مشكلة خطرة ومعقدة مثل هذه المشكلة؟ وهل أن مصير الخليج السكانى ومستقبل انتماءاته لا تهم الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامى، بل وكل قوى المجتمعات المدنية العربية والإسلامية؟
وأخيرا، هل أن البرلمانات ومجالس الاستشارة المتواجدة فى بعض دول الخليج العربية تعتبر هذا الموضوع جزءا من مسئولياتها تجاه شعوب المنطقة التى تدعى أنها تمثلها وتدافع عن حقوقها؟ متى ستنتقل إلى بحث قضايا مجتمعية كبرى بدلا من الثرثرة حول قضايا جانبية؟
حتى لا ينبرى المتحذلقون إلى قراءة النوايا وراء إثارة هذا الموضوع: نحن لسنا ضد استيراد عمالة غير عربية إذا كان ذلك يتم ضمن ضوابط أولوية حقوق المواطنات والمواطنين وهويتهم وثقافتهم، وضمن توازن إنسانى معقول لا يؤدى إلى كوارث سياسية واجتماعية وثقافية. نحن مع الأخوة الإنسانية ولكن أيضا مع السلامة الوطنية والقومية وعروبة الخليج العربى.
مفكر عربى من البحرين