قرار الرئيس ترامب بسحب القوات الأمريكية من سوريا والذى تضمنته تغريدة له على موقع تويتر يتضمن رسائل عديدة لأصدقاء الولايات المتحدة وخصومها فى الشرق الأوسط بل وفى العالم أجمع. وعلى الرغم من أن الكثيرين قد انتقدوا هذا القرار، وأن وزير دفاعه جيمس ماتيس قدم استقالته احتجاجا عليه، فإن بحث الأسباب العميقة لهذا القرار سوف يكشف أن الإدارات الأمريكية التى ستعقب دونالد ترامب فى البيت الأبيض ربما لن تتراجع كثيرا عنه. لأنه يرتبط بتحولات عميقة فى علاقات القوى واتجاهات السياسات فى الشرق الأوسط وفى النظام العالمى، ولذلك فإن كل الذين كانوا يعولون على بقاء الولايات المتحدة فى هذا الإقليم مدعوون الآن إلى إعمال الفكر كيف سيكون حالهم مع انسحاب الفاعل السياسى الأول على خريطة الشرق الأوسط منذ وقت طويل.
أشهر علماء السياسة الأمريكيين أكدوا أن المصالح التى دفعت الولايات المتحدة للقفز على مسرح سياسات هذا الإقليم هى تحديدا الدفاع عن الأمن ثم التفوق العسكرى لإسرائيل على جيرانها العرب، وضمان تدفق نفط الإقليم إلى الأسواق الخارجية ومنها السوق الأمريكية، والوقوف أمام نفوذ القوى الدولية المعادية للولايات المتحدة وهى الاتحاد السوفيتى وخليفته روسيا، وأخيرا مكافحة تهديد الجماعات الإرهابية للمصالح الأمريكية. ولكن جاءت تغريدة الرئيس الأمريكى لتدعو للتفكير فيما إذا كانت هذه القائمة المحفوظة لا تزال صحيحة؟ أو ماذا جرى لها ليتخذ الرئيس الأمريكى هذا القرار.
هل يمثل الشرق الأوسط مصالح حيوية للولايات المتحدة؟
المدهش أن هذه القائمة المحفوظة لا تزال صحيحة، ولكن تحقيقها لم يعد يقتضى تواجدا عسكريا أمريكيا فى الشرق الأوسط. طبعا الولايات المتحدة مهتمة وملتزمة بضمان التفوق العسكرى لإسرائيل وبما يسمى ضمان أمنها، ولكن لم يعد هناك خطر عسكرى يهدد إسرائيل، وقد وقعت بالفعل معاهدة سلام مع دولتين عربيتين تحيطان بها هما مصر أقوى الدول العربية عسكريا والأردن كما أبرمت اتفاقا مع منظمة التحرير الفلسطينية أقام سلطة على قسم من الأراضى الفلسطينية المحتلة تلتزم بالتنسيق الأمنى معها، بل وحتى الدولتين العربيتين المجاورتين للدولة العبرية، فإن سوريا أقواهما وذات النفوذ الواسع على الثانية لبنان لم ترفض من حيث المبدأ توقيع اتفاقية مماثلة، ولكن دار الخلاف حول مضمون هذه الاتفاقية، وما إذا كانت ستضمن عودة كامل الأراضى السورية التى تحتلها إسرائيل للسيادة السورية. والدول العربية الأخرى إما أنها تتسابق فيما بينها لنيل ود إسرائيل أو تفضل أن تنأى بنفسها عن أى مواجهة معها للتفرغ لمشاكلها الداخلية. أما إيران الدولة الإسلامية التى تدعى إسرائيل أنها تناصبها العداء، فعلى الرغم من تصريحات معادية من جانب محمود أحمدى نجاد رئيسها الأسبق فلم يعرف عنها أن لديها خططا لشن حرب على إسرائيل، بل الواقع أن إسرائيل هى التى تدعو للقضاء على نظام حكمها، وبادرت بالسعى لتخريب قدراته العسكرية، وأشاعت أنها تعد لمهاجمة منشآتها النووية. وقد صرح رئيس الوزراء الإسرائيلى تعليقا على قرار الرئيس الأمريكى بأن إسرائيل قادرة على الدفاع عن نفسها، وهو محق فى ذلك بسبب التفوق العسكرى الكاسح لإسرائيل على كل دول الإقليم، وإذا كان ثمة خطر على الأمن يراه الإسرائيليون فى الوقت الحاضر، فإن مصدره هو أعمال المقاومة التى تلجأ إليها أحيانا بعض الفصائل الفلسطينية أو إطلاق البالونات المشتعلة من قطاع غزة، ولا تحتاج إسرائيل إلى وجود عسكرى أمريكى لمواجهة هذه المخاطر.
وفيما يتعلق بالمصالح الأمريكية الأخرى وهى النفط، فلم تعد الولايات المتحدة بحاجة له بعد أن تحولت بفضل زيادة إنتاجها من الوقود الصخرى إلى دولة مصدرة له، كما لم يعد التنافس مع روسيا فى الشرق الأوسط يمثل تهديدا جادا لعلاقات دول الإقليم بالولايات المتحدة، فباستثناء الدعم العسكرى الروسى، والذى لا تحتاج إليه فى الوقت الحاضر معظم دول الإقليم، فلا يستطيع الاتحاد الروسى أن يكون بديلا للاستثمارات والصادرات الصناعية والزراعية والتكنولوجيا الأمريكية فى الشرق الأوسط، ولا أن يجتذب آلاف الطلبة العرب الذين يذهبون للدراسة فى الولايات المتحدة الأمريكية. طبعا تبقى حاجة الولايات المتحدة للتواجد فى الشرق الأوسط لمواجهة الجماعات الإرهابية، ولكن أقوى هذه الجماعات التى ورثت تنظيم القاعدة تحتفظ بعلاقات طيبة مع إسرائيل، وقد ادعى الرئيس ترامب أن تنظيم داعش قد هزم نهائيا، ومع أن ذلك التقدير مشكوك فيه، إلا أنه ليس من المتوقع أن يشكل هذا التنظيم وقد فقد سيطرته على أراضى عراقية وسورية تهديدا لأمن الولايات المتحدة لا تستطيع التعايش معه.
طبعا اعترضت على قرار الرئيس الأمريكى دوائر عديدة فى الولايات المتحدة وبين حلفائها الغربيين، ولكن أغلب الاعتراضات انصبت على توقيت اتخاذ هذا القرار قبل التأكد من الهزيمة النهائية لتنظيم داعش، وأسلوب اتخاذ هذا القرار، دون التشاور مع أركان الإدارة الأمريكية سواء الأجهزة التنفيذية للحكومة الأمريكية مثل وزارة الدفاع، أو قيادات الكونجرس بمجلسيه، أو مع الدول الأعضاء فى التحالف الدولى الذى تقوده الولايات المتحدة فى سوريا، ويضم أربعا وسبعين دولة بما فى ذلك بريطانيا وفرنسا، ولكن لم تتناول الاعتراضات الأسباب الجوهرية لقرار الرئيس الأمريكى، وتتلخص فى أن الوجود العسكرى الأمريكى فى الشرق الأوسط هو عبء على الاقتصاد الأمريكى، دون مقابل، فوفقا لترامب، تتولى الولايات المتحدة توفير الحماية لدول الإقليم وتنفق مليارات الدولارات وتضحى بأبنائها دون أن تساهم دول الإقليم فى المشاركة فى تحمل أعباء هذه الحماية. طبعا سيسرع من يعترض من القيادات الأمريكية أو من حلفائها للقول بأن هذا الوجود العسكرى هو إحدى ركائز مكانة الولايات المتحدة فى النظام العالمى، وأنه هو الذى يمكنها من المشاركة فى تحديد مستقبل التطورات السياسية فى هذا الإقليم ولكن سيرد عليهم ترامب الذى برع قبل وصوله إلى البيت الأبيض فى الأعمال العقارية متسائلا عن العائد الاقتصادى لمثل هذا الوجود، والذى لا يراه أصلا.
رسائل ترامب لأصدقاء الولايات المتحدة
قرار الرئيس ترامب أطلق مناقشات عديدة فى الولايات المتحدة وخارجها، اختلف حول تحديد ترامب للمصالح الأمريكية وزير دفاعه المستقيل ووزراء دفاع سابقون والعديد من قيادات الكونجرس، وذهب اثنان من وزراء الدفاع السابقين إلى القول بأن ترامب، حتى وإن أقرأ بأنه الرئيس واجب الطاعة فى الولايات المتحدة، إلا أنه لا يتمتع بالكفاءات المناسبة ليتبوأ موقع الرئيس، ولكن أيا كانت نتيجة هذا النقاش الدائر فى الولايات المتحدة وبين حلفائها، فأغلب الظن أنه لن تكون هناك عودة لوجود عسكرى فاعل للولايات المتحدة فى الشرق الأوسط، لأن الحجج الكامنة وراء قرار الرئيس الأمريكى لها بعض الوجاهة التى لا يمكن رفضها تماما حتى من جانب خصومه وتتعلق أساسا بمدى حاجة الولايات المتحدة لوجود عسكرى فى الإقليم كأداة لتحقيق مصالحها.
هذا القرار يحمل فى طياته أيضا رسائل ضمنية على السواء لحلفاء الولايات المتحدة ولخصومها فى الإقليم. أوضح هذه الرسائل كانت لأطراف المعارضة السورية الذى يجدون سندا لهم فى الوجود العسكرى الأمريكى. الفصائل المنضمة لما يسمى قوات سوريا الديمقراطية من الأكراد والعرب والتى كانت تقاتل تنظيم داعش فى شمال شرق سوريا رأت فى قرار الرئيس الأمريكى تخاذلا بل وخيانة لها، ليس لأنها غير قادرة على مواجهة تنظيم داعش، والذى قد يعيد تجميع صفوفه بعد الانسحاب الأمريكى، وهو ما سيستغرق بعض الوقت، ولكن لأن الرئيس التركى وعد بشن حملة عسكرية كبيرة على هذه القوات بدعوى أن الفصائل الكردية هى امتداد لحزب العمال الكردى الذى يقاوم حكومته داخل تركيا. صحيح أن الرئيس التركى صرح بأنه سيتمهل فى شن هذا الهجوم بعد قرار الرئيس الأمريكى ولكن الباب أصبح مفتوحا أمامه بعد هذا القرار. قد لا يكون هناك بديل آخر لهذه الفصائل الكردية سوى التحالف من جديد مع نظام الرئيس بشار الأسد والتراجع عن مطلب الاستقلال الذى لن يجد بكل تأكيد سندا من روسيا التى كانت تناصرهم من قبل حرصا منها على عدم إغضاب أنقرة ودمشق فى نفس الوقت. والطرف الثانى الذى تلقى هذه الرسالة السلبية من جانب الرئيس الأمريكى هو فصائل المعارضة السورية المدنية والعسكرية التى ستفتقد نصيرا لها فى مساعى التسوية السياسية للأزمة السورية بدءا بالاتفاق على لجنة تضع دستورا وانتهاء بترتيبات لمرحلة انتقالية. فما هو الوزن الذى ستتمتع به الولايات المتحدة فى مفاوضات جنيف هذا إذا ما قدر لها أن تنعقد، وقد أصبح هذا الانعقاد أمرا مشكوكا فيه بعد الانسحاب الأمريكى.
الرسالة الثانية هى لأصدقاء الولايات المتحدة بين الحكومات والقوى السياسية العربية. سوف تكرر إدارة ترامب مطالبها من دول الخليج العربية بأن تصب المزيد من أموالها فى الخزانة الأمريكية ثمنا لما تسميه الإدارة الأمريكية حماية لها. يجب على هذه الحكومات أن تتخلى عن حلمها بأن تدخل الولايات المتحدة فى حرب ضد إيران للحد من نفوذها الإقليمى. وإذا كانت قد تراجعت عن حزمة العقوبات الاقتصادية التى توعدت بها إيران تحت ضغط أصدقائها وشركائها التجاريين فى شرق وجنوب آسيا، فهل من الواقعى أن تتصور هذه الحكومات أنه بعد سحب ألفين من الجنود الأمريكيين من سوريا وآلاف من أفغانستان، سوف تغامر الولايات المتحدة بدفع أعداد مضاعفة من الجنود الأمريكيين لإجبار إيران على التخلى عن برنامجها النووى السلمى ومناصرة حلفائها فى سوريا ولبنان واليمن؟. هذه الحكومات مدعوة لأن تفكر فى سبل أخرى للتصدى للنفوذ الإيرانى مثل فتح جسور مع النظام الإيرانى والانفتاح على المطالب المشروعة من مواطنيها الشيعة واحترام الحقوق المدنية والسياسية لكل مواطنيها مما يغلق الباب أمام احتمالات التصيد الخارجى لانتهاكات هذه الحقوق. ولعل أصدقاء الولايات المتحدة ممن يعتمدون على مساعداتها العسكرية أيضا يشعرون بالقلق أن ينطوى حديث الرئيس ترامب على تهديد لهم بوقف هذه المساعدات لأنها لا تحقق كسبا مباشرا لبلده. لاشك أن البديل عن هذه المساعدات سوف يكون مكلفا.
لقد عولت كل هذه الحكومات من قبل على كسب ود شاغل البيت الأبيض، ولم تدرك أن النظام الأمريكى يقوم على تعدد المؤسسات، وإذا كان الرئيس الأمريكى يجد صعوبة فى تمرير ميزانيته بسهولة فى مجلسى الكونجرس، فمن الواضح أيضا أنه لا يستطيع وقف إجراءات عقابية يتخذها الكونجرس ضد إحدى الحكومات الصديقة للولايات المتحدة التى تتمادى فى انتهاك حقوق الإنسان لمواطنيها وجيرانها. كسب ود الكونجرس الأمريكى بتقديم «مساهمات» للحملات الانتخابية لبعض أعضائه بصورة مقنعة أمر مكلف وله عواقبه فى ظل درجة الشفافية الهائلة فى النظام الأمريكى. ولذا فقد يكون من الحكمة أن تتفادى غضب الكونجرس ومراكز الفكر والإعلام الأمريكى بالابتعاد عن السياسات التى تعرف مقدما أنه لن يكون لها أنصار فى كل هذه الدوائر.
الرسالة الأخيرة هى لخصوم الولايات المتحدة فى سوريا وتركيا وإيران وروسيا. الانسحاب العسكرى الأمريكى يمنحكم فرصة هائلة لتثبيت مواقعكم فى بلدانكم وخارجها. ولكن وحده التعامل بحكمة مع هذا الموقف هو الكفيل بتقليل فرص عودة دور عسكرى فاعل للولايات المتحدة فى الشرق الأوسط أو بانتقامها منكم فى مجالات وأقاليم أخرى.