كان العام ٢٠١٦ يلملم أوراقه استعدادا للرحيل، وكانت كل الشواهد تشير إلى اقتراب تخفيض سعر صرف الجنيه المصرى مقابل الدولار الأمريكى. فالمستوردون لا يجدون العملة الصعبة بالسعر المعلن لها على شاشات البنوك. والمصدرون يخشون من إيداع إيراداتهم بالمصارف التى وضعت قيودا على السحب والتحويل، وباتت الخسائر غير محتملة إن أودعت دولارا فى حسابك المصرفى بسعر رسمى دون تسعة جنيهات، وبحثت عنه فى السوق الموازية بما يزيد على ١٥ جنيها.. حتى النشاط الوهمى لبعض أسهم البورصة المصرية التى يتداول لها شهادات إيداع دولية بالبورصات الأوروبية GDR فقد كان نشاطا مبررا برغبة المستثمر فى تحويل مكاسبه الدولارية خارج البلاد، من خلال شراء سهم محلى من بورصة مصر، وبيع شهادة إيداعه فى بورصة لندن، محققا خسارة كبيرة من عملية التحويل، لكنها كانت خسارة مقبولة كونها آلية محسوبة المخاطر وشرعية المسلك. الأمر الذى تسبب فى تضخم القيمة السوقية لتلك الأسهم، وسيطرتها على الوزن الأكبر فى المؤشر الرئيس EGX30 دون أن يعكس ذلك أداء أفضل للشركة أو البنك صاحب السهم، لا من الناحية المالية ولا من الناحية الفنية للتحليل.
كان على السائح أن ينفق نقوده فى مصر بقيمة للجنيه المصرى يعلم أنها مغالى فيها.. وكان على المستثمر أن يبحث عن مقاصد استثمار بديلة خارج مصر، يسهل فيها شراء وتحويل وسحب العملات بأسعار معبرة عن سعر الصرف الحقيقى. ولم يكن ذلك صعبا فى ظل تعدد الوجهات الجاذبة للاستثمار شرقا وغربا.
• • •
دعت الحكومة إلى اجتماع مع خبراء الاقتصاد، وكنت واحدا من ثمانية خبراء استقبلهم السيد رئيس الوزراء حينها (المهندس شريف اسماعيل) لمناقشة الوضع المالى والنقدى للبلاد الذى تضمنه عرض تقديمى من السيد وزير المالية. مازلت أذكر تلك الأيام بتفاصيلها، وكان لى رأى فى آلية ووقت التعويم المدار، الذى يجب أن يأخذ وضع السيولة وظروف الاقتصاد الحقيقى فى الاعتبار، وقد ضمنت ذلك الرأى فى مقال بجريدة الأهرام نشر عقب اجتماع رئيس الحكومة بأيام.
كنت أعجب من إصرار بعض المسئولين حينها على التأكيد على أن سعر الصرف قد حرر تماما مطلع نوفمبر ٢٠١٦ وترك بغير تدخل لقوى العرض والطلب فى السوق! كان هذا بمثابة دعوة صريحة للدولرة والمضاربة على العملة، ومصادرة على حق السلطة النقدية فى تحقيق أهم أهدافها وهو استقرار المستوى العام للأسعار، خاصة أننا بلد لم ولن يتوقف قريبا عن استيراد أهم احتياجاته السلعية الأساسية من الخارج. بل إن حجم صادراتنا مرهون بدوره بالكثير من مدخلات الإنتاج والسلع الرأسمالية والوسيطة المستوردة من الخارج.. كان على أى عاقل ــ ناهيك عن المتخصص ــ أن يتنبأ بتراجع مستمر فى قيمة الجنيه مقابل الدولار والعملات الصعبة، ما لم يتغير ميزان التجارة المصرى بصورة هيكلية، مستندا إلى مستهدفات واضحة للاقتصاد العينى وليس النقدى. أما عن حلم وصول الدولار إلى أربعة جنيهات كما أعلن أحدهم حينها، فلم يكن أبدا مستندا إلى دراسة وتحليل، مما جعله أقرب إلى إشارة سلبية منه إلى حفز السوق بتفاؤل غير مبرر.
مع ذلك كان تحريك سعر الصرف فى ٢٠١٦ نافذة هامة وفرصة كان يجب أن تستغلها قنوات أو شرايين الاقتصاد لضخ أكبر قدر من السيولة إلى قلب الوطن.. ولعل البورصة المصرية وسوق المال بصفة عامة كان أبرز تلك الشرايين والقنوات الموصلة بين ما هو نقدى مالى وما هو حقيقى وعينى، سيما وأن البنوك الكبرى مشغولة بتمويل عجز الموازنة عن لعب دورها التقليدى كوسيط بين المدخر والمستثمر.
• • •
سوق المال توفر نظريا حزمة من الأدوات والمنتجات التى إن اجتذبت السيولة فإنها لا تخضع إلى الحسبة البسيطة المباشرة لأدوات الدخل الثابت مثل السندات والأذون، التى ما إن تنخفض الفائدة الحقيقية عليها يتخلى عنها المستثمر، تماما كما لوحظ خلال الفترة الماضية من خروج لاستثمارات أجنبية من أدوات الدين المصرية، وارتفاع تكلفة التأمين ضد مخاطر التعثر لتلك الأدوات..
كان بعض المسئولين عن ملف الاستثمار يرصدون تدفقات الأموال الساخنة فى السندات الحكومية خلال الأعوام الماضية باعتبارها نجاح منقطع النظير فى ملف الاستثمار! من هنا بدأت الأزمة الحقيقية.. قرار التحريك كان ينبغى أن ينعكس بقوة على الاقتصاد الحقيقى فيزيد الإنتاج الوطنى، ويحل محل الكثير من الواردات ويبقى فائض للتصدير. كان ينبغى أن تزيد معه أعداد السائحين أضعاف ما هى عليه اليوم (قبل انتشار الجائحة بكل تأكيد). كان عليه أن يأتى مصحوبا بتشجيع الإنتاج الصناعى والزراعى والخدمى، وفق خطة واضحة المعالم.. وكانت سوق المال الأولية والثانوية أنسب قناة لتحقيق أغراض الربط السريع بين ما هو نقدى مالى وبين ما هو حقيقى..
المستثمر فى الأسهم حساباته وقراراته أكثر تعقيدا من مجرد الركون إلى معدل التضخم حتى يخرج من البلاد.. استثمارات الحافظة، وخاصة الأسهم ومشتقاتها ترقب أداء الشركات الإنتاجى والمالى وفرص نموها وتطور قيمتها، فتبصر الأثر على الاقتصاد الحقيقى.. للأسف الشديد لم تعمل تلك القناة بكفاءة، وتركت إدارتها فى يد من لم يغتنم فرصة تصحيح سعر الصرف أمام الدولار، فأصبحنا فى انتظار تصحيح جديد وربما كبير بعد مرور خمس سنوات من التصحيح السابق..
البورصة المصرية لم تعد مرآة للاقتصاد أو لأى نشاط فى مصر، فهى محملة بعدد محدود من الشركات (٢١٨ شركة) وتلك الشركات تتسم بالتحيز والتركز القطاعى، وحتى القطاعات المهيمنة على البورصة مثل البنوك تعانى من فقر كبير فى تمثيلها بالشركات المقيدة، إذ يغيب عن القيد العديد من البنوك الكبرى فى مصر، والتى تمتلك الجانب الأكبر من الودائع، وتمنح القدر الأعظم من التسهيلات الائتمانية.
• • •
النتيجة الحتمية لما تقدم تراجع منتظم لمؤشرات أداء البورصة وفى مقدمتها نسبة رأس المال السوقى إلى الناتج المحلى الإجمالى، والتى تراجعت من نحو ١٠٤٪ عشية الأزمة العالمية فى ٢٠٠٨ إلى ما يدور حول ١٠٪ اليوم! كذلك تراجعت أحجام التداول مقومة بالدولار الأمريكى بين هذين التاريخين، وتراجع معها معدل الدوران وعدد العمليات... وهى جميعا مؤشرات يرجى منها أن تعكس صلابة سوق المال، وقدرته على الاستدامة ومنافسة بدائل الاستثمار الأخرى.
انفصال البورصة عن الاقتصاد يأتى متزامنا مع أداء شديد التردى لعمليات الطرح وزيادة رءوس الأموال بالسوق الأولية، واعتبار برنامج الطروحات الحكومية الحلقة الأضعف فى التزام الحكومة ببرنامج الإصلاح المواكب لتحرير سعر الصرف نهاية 2016، بل ويأتى مصاحبا لجمود مؤسف للسوق التأمينى وسوق التمويل العقارى، ويكفى الإشارة إلى أن معدل الاختراق التأمينى (penetration rate) فى مصر لا يزيد عن ٠.١١٪ ويتم حسابه بنسبة أقساط التأمين سنويا إلى الناتج المحلى الإجمالى فى ذات العام.. هذه النسبة تصل إلى ١٢٪ فى الولايات المتحدة، و13.7٪ فى جنوب أفريقيا و7.3٪ كمتوسط عالمي!... أما سوق التمويل العقارى فمازالت القيادة السياسية تحاول منحه قبلة الحياة بعدد من المبادرات التى تصطدم فى النهاية بجدار مؤسسى ورقابى شديد الجمود.