فى زيارة منذ عدة أيام لمدينة مرسى مطروح رأيت الأعمال الهندسية لحماية كورنيش مدينة مرسى مطروح والاستخدامات التجارية التى تم تكثيفها فى أجزاء منه، ورأيت العديد من المشكلات على مستوى التصميم الذى يراعى إتاحة المكان للجميع فبدلا من استخدام السلالم كان يجب استخدام المنحدرات بالميول المناسبة. بالإضافة للعديد من المشكلات التصميمية الأخرى، بدا لى أن وقتا كافيا لم يتم استثماره فى تصميم ذلك المكان واقتراح الاستخدامات الملائمة التى لا تحجب البحر. وكان من الضرورى مثلا الاستعانة بمختص فى تنسيق الموقع يستطيع أن يوفق بين تصميم الحمايات الهندسية التى أفهم أنها ربما تكون مؤقتة وبين متطلبات مرور المشاة. وحسب ما أفهم فإن دراسة بيئية شاملة تضع فى الاعتبار التحديات المستقبلية ربما لم يتم القيام بها. ويثير ما يحدث فى كورنيش مطروح وكورنيش الإسكندرية ومناطق ساحلية عديدة فى مصر قضايا مهمة للغاية.
• • •
بفضل الدراسات العلمية العديدة أصبحنا نفهم بصورة أفضل كيف تتصرف الأنظمة الطبيعية وكيف أنها متوازنة ولكن بصورة مركبة، كما أنها تتغير ولكن بصورة بطيئة للغاية لكى تسمح للكائنات التى تعيش فيها التأقلم مع الظروف الناشئة. وكما أكد التقرير الأخير الصادر فى الحادى عشر من يوليو للجنة الدولية الحكومية للتنوع الطبيعى وخدمات المنظومات البيئية أن عددا محددا من الكائنات البرية (قدرت بنحو خمسين ألف نوع) هى الأساس فى دعم واستمرار الحياة على الأرض. وأكد التقرير نفسه أنه من المهم تقييم ذلك التنوع الطبيعى بصورة لا تضع المال مقابلها وتوجب إدراجها كأحد المحددات الرئيسية فى بلورة السياسات واتخاذ القرارات.
لم نكن نعرف هذا بتلك الصورة من الوضوح والحسم منذ بضعة عقود حين قام وقتها بعض المسئولين بالتعامل مع المناطق البيئية الحساسة وكأنها مورد وربما مصدر للدخل كساحل البحر المتوسط وساحل البحر الأحمر. فى الساحل الشمالى قاموا بتقسيمه كأراضٍ توزع على الجمعيات التعاونية أو أراضٍ تباع للمستثمرين، وفى كل الأحوال تمت إزالة الطبيعة البرية الموجودة كالنباتات البرية والتى نظرا لقلة معرفتنا بأهميتها تم تدمير العديد من موائلها الطبيعية بطول الساحل، كما تم إزالة الكثبان الرملية فى العديد من الأماكن وهى التى تشكل موائل طبيعية فرعية هامة للغاية للمنظومة البيئية ولاستقرار الشواطئ، كما تم ردم السبخات وإعادة تشكيل جغرافيا العديد من الأماكن عن طريق الحفر والردم المكثف.
ليس لدينا للأسف خريطة واقعية تحدد تلك التدخلات وحجمها والأماكن التى وقعت فيها، وأعتقد أنه أيضا ليست لدينا دراسة شاملة للآثار قصيرة أو متوسطة أو طويلة الأمد لتلك التدخلات التى لا يعى الكثير منا مدى تأثيرها على صحة واستدامة المنظومات البيئية المحلية والإقليمية. ولا ينتبه البعض إلا بصورة مؤقتة عندما يحدث ما لا يمكن تجاهله كانهيار جزء من كورنيش الإسكندرية فى عام ٢٠١٩، وكظهور النحر الشديد فى مناطق متعددة فى كورنيش مرسى مطروح، أو النحر فى القرى السياحية المجاورة للتنمية الكبرى بمنطقة سيدى عبدالرحمن. ويسرع الجميع للبحث عن حل سريع يراد به تخفيض درجة حرارة المريض/ة ولا يبدو اكتراثا حقيقيا للأسباب الجذرية وراء ما يحدث.
يسمى دارسو المنظومات المركبة تلك الظاهرة بنموذج جبل الثلج عندما نسرع بالتعامل مع الجزء الظاهر أى الأعراض ولا نحاول فهم الأسباب الكامنة فى الأعماق، والتى بدون دراستها وفهمها بصورة جيدة لن نستطيع الوصول لحل مستدام لتلك المشكلات. ما نعرفه جيدا الآن أن الطبيعة بها تعقيد مذهل وأنه بدون محاولة جادة للتعامل معها قائمة على احترام هذا التعقيد فإن ما سنقوم به الآن من حلول «هندسية» تبدو للوهلة الأولى قادرة على التعامل مع تلك المشكلات الظاهرة هى فى الحقيقة ربما تكسبنا بعض الوقت ولكنها أيضا غالبا ستزيد الوضع تعقيدا فى النهاية.
• • •
منذ سنوات قليلة وفى اجتماع مع مسئولى وزارة البيئة وفى أثناء العرض الذى قدمته شرحت لهم الرسم البيانى الرائع الذى يسمى كعكة الزفاف والذى يقدم تفسيرا هاما لأهداف التنمية المستدامة مكون من ثلاث طبقات. فى الطبقة الأولى القاعدية أربعة أهداف تخص المحيط الحيوى للكوكب والتى بدون تحقيقها لا يمكن تحقيق أو الادعاء بتحقيق الأهداف الخاصة بالاجتماع والاقتصاد. قلت لهم بوضوح أن وزارة البيئة من المفروض أن تكون أهم وزارة فى الحكومة وأنها كذلك مثلا فى دولة مثل فرنسا لأنه ببساطة بدونها لا يمكن أن تكون هناك تنمية حقيقية. فهمى الذى أعتنقه أن البيئة يجب ببساطة أن تقود التنمية. ولكن أعرف أن وزارة البيئة مكبلة بالعديد من القيود وقلة الأدوات والتى للأسف جزء كبير منها يرجع لكونها وزارة غير تنفيذية.
أتصور أن مناسبة استضافة مصر لمؤتمر الأطراف فى شرم الشيخ فى نوفمبر القادم فرصة مهمة لوضع البيئة التى تدعم حياتنا فى المقدمة، ودعم المؤسسات التى تعمل على الحفاظ عليها ومنها وزارة البيئة وأن يتم مدها بالكفاءات اللازمة والكافية للقيام بالدراسات وعمل قواعد البيانات التى تمكننا من مراقبة ومراجعة ما يحدث خاصة فى المناطقة الحساسة بيئيا.
يجب أن تكون البيئة خطا أحمر فهى توجه التنمية، لا أن يتم التضحية بها من أجل مكاسب أو منافع قصيرة المدى لأنها ببساطة هى الأصل والأقوى وعلينا التعامل معها بالاحترام التى تستحقه.
أستاذ العمارة بجامعة القاهرة
الاقتباس:
الطبيعة بها تعقيد مذهل وأنه بدون محاولة جادة للتعامل معها قائمة على احترام هذا التعقيد فإن ما سنقوم به الآن من حلول «هندسية» تبدو للوهلة الأولى قادرة على التعامل مع تلك المشكلات الظاهرة هى فى الحقيقة ربما تكسبنا بعض الوقت ولكنها أيضا غالبا ستزيد الوضع تعقيدا فى النهاية.