تخفيض الأحمال.. والاقتصاد السلوكي - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 2:38 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تخفيض الأحمال.. والاقتصاد السلوكي

نشر فى : الإثنين 24 يوليه 2023 - 7:45 م | آخر تحديث : الإثنين 24 يوليه 2023 - 7:45 م
لا ينكر أحد أهمية الاقتصاد السلوكى واقتصاديات المعلومات فى تفسير العديد من الظواهر الاقتصادية. الاقتصاد علم اجتماعى والإشارات التى يطلقها الفاعلون الاقتصاديون تؤثر بشكل حاسم فى توجيه قرارات الأسواق وعناصر الإنتاج والمستهلكين والجهات المنظمة وسائر الفاعلين الآخرين. إطلاق الحكومة المصرية برنامجا لتخارج الدولة من النشاط الاقتصادى الذى تزاحم فيه القطاع الخاص، هو إشارة إيجابية، تفيد مزيدا من الالتزام بوثيقة ملكية الدولة، وبالبرنامج الإصلاحى الذى تم الاتفاق عليه مع صندوق النقد الدولى، لمعالجة الخلل الهيكلى فى الاقتصاد. لكن تلك الإشارة يتم تثبيتها متى تمكّنت الحكومة من تحويل برامجها ومستهدفاتها المعلنة إلى عقود وصفقات فعلية. ومتى كان حجم الإنجاز فيما تم بيعه من أصول للقطاع الخاص يتماشى مع فترة الترقب والانتظار التى سيطرت على المستثمر المصرى والأجنبى ومؤسسات التمويل طوال سنوات انتظارا لإنفاذ برامج التخارج، ومتى كانت تلك العقود والصفقات قد تمت على الأصول المعلن سلفا عن ضرورة تحريرها كليا أو جزئيا من سيطرة المال العام، وليست أصولا جديدة تم اللجوء إلى بيعها وفاء بوعود التخارج والسلام!. كذلك فإن إعلان وزارة المالية المتكرر عن استهداف فائض أولى فى الموازنة العامة للدولة هو إحدى الإشارات الإيجابية، الدالة على قدرة الدولة على سداد التزاماتها من الديون ولو على المدى الطويل. لكن انخفاض حجم الفائض وتضخم الوزن النسبى لخدمة الدين، بحيث صار يلتهم ما يزيد على ثلث الموازنة يقلل من أهمية تلك الإشارة. بل إن تراكم الدين العام بمعدل أسرع من المعتاد خلال فترة تحقيق هذا الفائض المتواضع، يمحو أى أثر إيجابى له، خاصة بعدما صارت ترجمته إلى مؤثر معنوى فى الاقتصاد الحقيقى أمرا بعيد المنال.
• • •
لا يصمد أى اقتصاد فى العالم بمجرد توليد إشارات إيجابية دون تحويلها إلى واقع معيش، يؤثر فى نهاية المطاف على رفاهية المواطن ومقومات التنمية البشرية المرتبطة به، من حالة صحية ومادية وتعليمية. إذن يمكن النظر إلى الإشارات والنكزات nudges باعتبارها من العناصر المساعدة لخلق بيئة صحية جاذبة لمقومات النجاح الاقتصادية، ومعينة على الإسراع بوتيرته. لكنها لا تخلق واقعا من العدم، إلا بالقدر الذى يسهل هدمه فى لحظات بمجرد انعكاس الإشارات. تماما كما نرى العديد من العملات الرقمية تصعد أسعارها بسرعة الصاروخ على خلفية إشارات الشراء الكثيف، ثم تتداعى إلى الانهيار المفاجئ فى سياق آخر من المعلومات المشككة، وحركة البيع فى أسواق تلك العملات. كذلك يمكن للإشارات السلبية أن تقلل من أهمية الإنجاز العملى المحقق على الأرض، إذا لم يحسن إرسالها أو استقبالها. هنا يجدر الالتفات إلى محطات توليد الكهرباء المنشأة حديثا بغرض رفع القدرة بالشبكة القومية للكهرباء إلى مستوى يتحقق معه فائض بدلا من عجز مستمر. هذه المحطات حقق دخولها الخدمة طفرة ملموسة فى واقعنا الاقتصادى والاجتماعى، لكن إجراءات تخفيف الأحمال المنفذة أخيرا بقطع الكهرباء على مختلف المستخدمين بالتناوب خلال الشهر الحالى، هى من الإشارات السلبية على عدم استعداد مرفق الكهرباء لصدمات الطقس الحار! وعلى عدم التخطيط الجيد لنقص الوقود (غاز ومازوت) خلال فترات الاستهلاك المرتفع للكهرباء، على الرغم من إلغاء الدعم وتحميل المواطن بفاتورة مرتفعة لاستهلاك الكهرباء (محملة جزئيا بدعم تبادلى لغير القادرين). ينبغى أن توفر تلك الفاتورة كل ما يتطلبه المرفق من احتياجات مالية لتوفير الوقود ومن ثم توليد الكهرباء التى يحتاجها كل المستهلكين. الواقع اليوم يفيد بأن فائض القدرة الذى نجحت الحكومة فى تحقيقه لا يعنى بالضرورة فائضا بالطاقة، أو حتى اكتفاء من الطاقة اللازمة لتلبية احتياجات الاستهلاك فى وقت ذروة الاستهلاك. الأزمة تكون أكبر بالنسبة للمصانع التى تقام بغرض إنتاج الحديد والصلب، والألومنيوم، والنحاس، والسبائك الحديدية، والبتروكيماويات والأسمنت.. وغيرها من صناعات كثيفة استهلاك الطاقة. تلك الصناعات تلقّت العديد من الإشارات الدالة على ترحيب الدولة بتوطينها وتعميق سلاسل إمدادها محليا، للاستفادة من فائض القدرة بشبكة الكهرباء واكتشافات الغاز الطبيعى الجديدة. أحدث هذه الإشارات تمثلت فى تعديل قانون الاستثمار ٧٢ لسنة ٢٠١٧ ليسمح لصناعات تكرير النفط بأن تقام وفقا لنظام المناطق الحرة، بعد حظر لها لدى سن القانون بغرض التعامل مع شح وندرة الطاقة التى يمكن أن تستخدمها تلك الصناعات. كان ذلك واضحا فى المذكرة التفسيرية الشارحة لأسباب الحظر. وعند التعديل الأخير للقانون الصادر منذ أيام، كانت المذكرة التفسيرية وعرض السادة ممثلى هيئة الاستثمار على البرلمان يؤكدان على أن رفع الحظر السابق مقرون بتغير وضع الطاقة وتحقق فائض فى الإنتاج! كان هذا أحد أوجه اعتراضى على فلسفة التعديل، واليوم نرى أن تلك الفلسفة تصطدم بواقع جديد، يبدو فيه شح الطاقة ماثلا أمام جميع المستهلكين. الإشارات الملتبسة تؤدى إلى ارتباك تدفقات رءوس الأموال وانسحابها، أو فى القليل ترقبها للمشهد لحين وضوح الرؤية. من الإشارات الملتبسة التى أعاينها يوميا بصورة شخصية، تلك الأبراج السكنية المشوّهة للنسق المعمارى فى مدينة السادس من أكتوبر، والملاصقة لأحد مراكز التسوّق الشهيرة.. ناهيك عن التشوه المعمارى، وانتهاك خصوصية جميع العمارات المحيطة المتسببة فيه ارتفاعات تلك الأبراج وتصميمها الشاذ، فإن الأنوار تبقى مضاءة طوال اليوم فى كل الوحدات السكنية «الشاغرة» بالأبراج الثلاثة دون مبرر مفهوم! حتى عند انقطاع التيار عن المنطقة لتخفيف الأحمال، تبقى تلك الأبراج ساطعة الإنارة على مدى الساعة وطيلة شهور!
تخطيط الطاقة يغنينا عن ذلك الارتباك، يعطينا صورة أكثر وضوحا وشفافية لطبيعة وحجم الاستهلاك المستهدف والمخطط بمختلف أنواعه: المنزلى والصناعى والزراعى والخدمى ولقطاع النقل والمرافق. تخطيط الطاقة يُنبئنا بدورات مستمرة من العجز والفائض فى مصر، خاصة فى انتاج الغاز الطبيعى والكهرباء (المستهلك الأكبر للغاز). تلك الدورات تستلزم إدارة رشيدة، تعرف كيف تتجنب أزمات العجز مستثمرة فترات الفائض.
• • •
مما تقدّم نفهم ضرورة عدم الإفراط فى التعويل على علم النفس السلوكى فى الخروج من الأزمات الاقتصادية، حتى لو كانت غالبية تلك الأزمات قد نتجت عن عوامل نفسية أو نتيجة لعدم تماثل المعلومات. الاقتصاد الحقيقى هو الفاعل الأبقى والمستدام على أرض الواقع. لن تحل أزمات نقص العملة، أو أزمات التضخم والديون إلا بالإنتاج وزيادة إنتاجية جميع عناصر الإنتاج. لن تحل أزمة شح الموارد الا بضبط الإنفاق الفعلى، وبالعمل على الحد من الزيادة السكانية. لن تحل أزمة الطاقة إلا بمزيج من المعالجة الديمغرافية (خفض معدل السكان وتحسين توزيعهم) وتحسين شروط استغلال موارد الطاقة مع الشريك الأجنبى، ورفع كفاءة شبكات الانتاج والتوزيع بما يخفض الهدر، بالإضافة إلى التخطيط ثم التخطيط الجيد للطاقة.
مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات