نشر موقع قنطرة مقالا للكاتب «Amrita Das» نعرض منه ما يلى:
تصاعدٌ شديد فى جرائم الكراهية ضد الأقليات الهندية، بادرت على إثره 49 شخصية هندية بارزة فى يوليو 2019 بإمضاء عريضة مفتوحة، تلفت انتباه رئيس الوزراء الهندى ناريندرا مودى إلى أن الدعاء الدينى الهندوسى الشهير «جاى شرى رام» (يحيا الرب راما) قد تحوَّل إلى صرخة حربية..
تضمَّنَت قائمة التسعة وأربعين توقيعا مخرجين ومخرجات سينمائيين من أمثال أَپارنا سِن، أَدُوُر غُوپالاكرِيشنان، أَنُوراغ كاشياﭖ، مانِى راتنام، شيام بِنِغال؛ وآخَرين من الفنانين المعروفين، أمثال المغنية شُوبها مُودغال، والممثلة/المخرجة رِيڤاثِى، والمؤرخ راماتشاندرا غُوها، والممثل سُومِيترا تشاتِيرجِى، والممثلة كُونكُونا سِن شارما، والمؤلف الغنائى رُوپام إسلام، وغيرهم كثير. كانت هذه هى ربما المرة الأولى التى تدخَّلَت فيها أسماء لامِعة من الوسط الفنى والثقافى فى الشأن السياسى للدولة الهندية. على النقيض، لطالما كان تدخُل السياسيين فى أوجه الثقافة الهندية المتعددة أمرا طبيعيا.
فالهند بلد شهير بتراثه الثقافى الثرى وفنونه التعبيرية الغنية. وبفضل مُبدِعين ــ من أمثال ساتياجِيت راى ومِيرا نايِر فى فنون السينما، وراجا راڤِى ڤارما وعمريتا شِير فى فنون الرسم، وراڤيِ شانكار فى فنون الموسيقى، وراغُوبِير سِينغ فى فنون التصوير؛ ولا يفوتنا كذلك مِيرزا غالِب ورابِيندراناث طاغُور وسارُوجِينى نايدُو فى مجال الآداب والشعرــ تمكَّنَت الهند من أن تخلق لنفسها تمثيلا دوليا فى جميع مجالات الفنون والثقافة.
تزايُد التدخل السياسى
تَمَكَّنَت مجالات الثقافة والإبداع فى الهند من البقاء فى كينونة نسبية من التعبير الحُر منذ عام 1947، أى منذ أن حصلَت الهند على استقلالها. ويمكننا أن نعزو أسباب منع الرقابة لبعض الأعمال الإبداعية مثل كتاب «آيات شيطانية» لسَلمان رشدى ووثائقى «الحل النهائى» لراكِيش شارما إلى طبيعتهما المثيرة للجدل، أو حتى إلى احتمال غرسهما للنعرات الطائفية داخل المجتمع الهندى. بوسعنا إذا أن نكون منصفين حين نجزم بأن التدخل السياسى فى مجال الثقافة يُعتَبَر اتجاها جديدا من قِبَل الحكومة.
فى فبراير من عام 2019، تَم تعريض الممثل والمخرج المعروف أَمُول پالِيكار إلى رقابةٍ فَجة. إذ وقف هذا الفنان على المنصة أثناء خطابه فى حفل افتتاح معرض «داخل العلبة الفارغة»، إحياء لذكرى الفنان التشكيلى پرابهاكار باروِيه فى المعرض الوطنى للفن الحديث (إِن جِى إِم إِيه) فى مُومباى.
قامت حينها مديرة المعرض أَنِيتا رُوپاڤاتارام بمقاطعة پالِيكار باستمرار، لا سيما كلما ذكر على لسانه قضية «فقدان الاستقلالية» فى الفنون؛ حيث ألَحَت رُوپاڤاتارام فى طلبها من الفنان التركيز على «أعمال باروِيه» دون غيرها من المواضيع فى خطابه. كان پالِيكار يحاول أن يُعَبِر عن استيائه من زيادة تحكُم وزارة الثقافة الهندية فى شئون المعرض الوطنى للفن الحديث (فى مُومباى وبانغُور)، مُعرِبا بذلك عن قلقه تجاه تضييق فرصة العرض للفنانين المستقلين «البَرَانِيِين» على حد وصفه، فيما تتم الموافقة الحصرية على عرض أعمال الفنانين التابعين للمعرض دون غيرهم.
كما تُلاحَظ الزيادة اللافتة للنظر فى إنتاج الأفلام التى تُروِج للأجندة السياسية للحكومة. على سبيل المثال، شَهِدَ فيلم «تواليت: قصة حُب» إطلاقَه التجارى عام 2017، مِن بطولة الممثل الأكثر طلبا فى عالَم «بُولِيوُود» للسينما الهندية، أَشكِيه كُومار، وإلى جانبه الممثلة بهُومِى پِيدنِيكار. تدور قصة الفيلم حول زوجين حديثى الارتباط فى ريف شمال الهند، حين ينتهى الأمر بخروج الزوجة غاضبة من منزل أهل زوجها لأنه لا يحوى دورة مياه داخلية.
يعرض لنا الفيلم الذى تستغرق مدته ساعتين ونصف الساعة صراع الزوجين مع عائلتهما والمجتمع، فى رحلة دفاعهما عن أبسط حقوقهما وأهم احتياجاتهما. رواية الفيلم الأساسية مبنية على مبادرة حكومة مُودِى «الدعوة إلى هند نظيفة»، وهى حملة تم إطلاقها عام 2014، أى عند صعود مُودِى إلى سدة الحكم لأول مرة. أحد أهم أهداف هذه الحملة هو أن تصبح الهند خالية من ظاهرة «التبرُز» فى الأماكن العامة. هذا، لأن أغلب البيوت فى المناطق الريفية لا تحوى دورات مياه داخلية، فيضطر سكان القرى، بمن فيهم النساء، إلى قضاء حاجتهم فى الخلاء.
وتُجبَر النسوة على المشى مسافات طويلة لقضاء حاجتهن، غالبا قبل شروق الشمس ثم بعد غروبها. فى حقيقة الأمر، لا يمكننا أن نُنكِر أن معالَجة الفيلم لهذه الظاهرة ومبادرة الحكومة فى هذا الشأن تتماشيان مع مصلحة البلد. لكننا نتساءل فى الوقت ذاته عن سبب عدم طرح الأفلام الهندية لهذه الاحتياجات الأساسية والقضايا الاجتماعية فى السابق، لا سيما أن صناعة السينما الهندية فى حالة دائمة من التطور والازدهار؟
تعريف «الهند الجديدة»
أحد أكبر مظاهر النزاع الثقافى فى الهند فى الآونة الأخيرة هو فيلم «أُورِى: الضربة العسكرية الجراحية»، الذى صدر فى يناير من عام 2019، والذى يُصَوِر أحداثا مبنية على وقائع حقيقية.
يتناول الفيلم الضربات العسكرية «الجراحية» التى نفَذها الجيش الهندى ضد الجانب الباكستانى من كشمير، والتى استَهدَفَت مُسلحين ومعاقل قتالية ضد الهند. مع هذا، لاقَى الإصدار التجارى لفيلم «أُورِى» تقبلا جيدا من قِبَل جميع الأطراف. ومع الاشتباك الناجم عن القرار الهندى الجارى بشأن تقسيم إقليم «جامُو وكشمير» إلى منطقتين، عبر طرق منافية تماما للديمقراطية، سيستمر هذا الفيلم فى جذب المزيد من الاهتمام.
لَعب فيلم «أُورِى» دَورا مُحفِزا قبيل الانتخابات العامة فى شهر مايو من هذا العام 2019. وقبل أن تتم إعادة انتخاب الحكومة الحالية، قامت الأخيرة باستغلال الفيلم لتعزيز الروح القومية لدى الشعب الهندى، وذلك عبر تذكيره بأن وزير دفاع الحكومة التى يرأسها مُودِى – مانُوهار ﭘارِيكار – كان بشخصه هو القوة الدافعة وراء الجيش الهندى فى ضرباته العسكرية «الجراحية» ضد كشمير.
فى أحد تصريحاته، قال ﭘارِيكار: «نحن لا نبدأ بالحَرب، لكننا إذا رأَينا أحدا ينظر إلى وطننا بعين شريرة، فسنَفقَأ عينيه ونضعهما بين كفَيه». فقام منتجو الفيلم بإعادة صياغة هذا التهديد الأيديولوجى على نحو الشعار الهندى: «هذه هى الهند الجديدة؛ ستدخل الهند بيوتَهم وسنقتلهم». هذه الدَلالة المُعَبِرَة عن «هند جديدة» هى التى تتماشَى فى الواقع مع شباب الهند اليوم، من الناحيتين الفكرية والثقافية مجتمعتين.
الخوف من التعبير عن الآراء السياسية
بعد شهر من إصدار فيلم «أُورِى»، نزل فيلم آخر على الساحة الفنية باسم «ﭼالِى بُوى» [صَبِيُ العَشوائيات]. يقوم ببطولة الفيلم المُحاك بجدارة الممثل رانڤِير سِينغ، حيث يُمثل دور فنان طَموح يؤدى موسيقَى الـ«رَاپ» ويُعارِك ضنك العيش فى إحدى عشوائيات مدينة مُومباى. تلعب الموسيقى دورا أساسيا فى الفيلم، إلا أن هذا لم يمنع الرقابة من بَتر وإعادة مُونتاج إحدى الأغانى المُسَماة «أَزادِى» «حُرِيَة».
حَمَلَت النسخة الأصلية من الأغنية مَقطعا يتناغم مع احتجاجات الطلاب ومع الانتقادات المُعادِية للحكومة. لكن عندما سُئِل الممثل رانڤِير سِينغ أثناء الحملة الدعائية لفيلم «ﭼالِى بُوى» عن الرسالة السياسية الضمنية فى أغنية «أزادِى»، رَفَضَ هذا الادعاء بإيماءة عابِرَة، مُضيفا بأنه فنان «غير سياسى».
هذا ما قد يعزو عدم مبالاة رانڤِير سِينغ بمسألة خضوع أغانى المادَة الصوتية لفيلم «ﭼالِى بُوى» لمِقَص الرقابة، أو حتى بالتقاطه صور «سِيلفِى» ذاتيَة مع نارِيندرا مُودِى قبل تفعيل الرقابة بأسابيع قليلة. أو قد يتملك مشاهيرنا الشباب شعورٌ عارمٌ من الخوف من التعبير عن آرائهم السياسية.
ومع تواجُد الكثير من الأيقونات الثقافية الشابة التى تُرَوِج للمشاعر القومية فى الهند بمهارة ناعمة، أصبح من السهل علينا أن نَعِى تصاعُد التدخل السياسى فى المجال الثقافى لهذا البلد.
«لا توجد ديمقراطية حَقَة دون أن تكون هناك مُعارَضة حقيقية«؛ هذه هى الجُملة التى وَقَع عليها تسعة وأربعون من المشاهير فى خطابهم المُوَجَه إلى رئيس الوزراء نارِيندرا مُودِى.
النص الأصلى:من هنا