فاجأتنا إحدى القنوات الفضائية العربية الشهيرة بلقاء، بُث من دُبيّ، مع السيدة رغد ابنة الرئيس الراحل صدام حسين، لا نعرف أسباب هذا اللقاء، ولا دوافعه، خاصة أن القناة المُضيفة لهذا اللقاء تابعة لدول أو لجهات تُكن أشد العداء لصدام ولنظامه، وكانت من أكثر المتضررين من سياساته ومن حروبه ومن اعتداءاته على الآخرين، كان هذا هو الانطباع الأول لنا عند سماعنا بخبر هذا اللقاء.
الانطباع الثانى الذى ساورنا هو التساؤل عن ماذا سيضيف مثل هذا اللقاء للمشاهد العربى، فمن غير المتوقع أن ننتظر من أحد أبناء رئيس، سابق أو حاضر، حيّ أو ميت، صالح أو طالح، أن يكون موضوعيا أو محايدا، لأنه بطبيعة الحال سوف يدافع، الابن أو الابنة، بكل ما أوتى من قوة عن أبيهم، بالحق وبالباطل، وفى هذا لا يستطيع أن يلومهم أحد فى دفاعهم عن والدهم، وإنما اللوم ربما يقع عليهم إذا أدانوا والدهم أو هاجموه!
ومن وجهة نظرنا، نرى أن التصرف السليم الذى يجب أن يأخذه أبناء أى رئيس «مُدان» هو الصمت، والابتعاد عن وسائل الإعلام، لأن ظهورهم فيها سيكون فيه، بلا شك، استفزازا للرأى العام الذى لن يقتنع بشيء من أقوالهم، كما سيكون فى هذا حفظ لكرامة ولسيرة الرئيس الأب، خاصة إذا وافته المنية، وخاصة إذا كانت عليه إدانات كبيرة ومتنوعة، بسبب ثورة قامت عليه، أو بسبب سياسات له أدت لهزائم كبيرة أو لاحتلال لوطنه أو لتشريد شعبه أو لضياع ثروات بلده أو لسمعته الاستبدادية فى الحكم أو لإهمال فى تنمية أدت لتدهور الأحوال المعيشية لشعبه، وفى كثير من هذا ما ينطبق على صدام حسين وأشباهه ممن ثارت عليهم شعوبهم.
إلا أن هذا ليس معناه أن يمنعهم أحد من التعبير عن أنفسهم بأن يُدَوْنوا، على سبيل المثال، مذكراتهم، وآرائهم فى كتب منشورة على نفقاتهم الخاصة، فهذا حق مشروع لهم، ولكن أن يفرضوا أنفسهم على الناس، ويقتحموا بيوتهم، من خلال شاشات التلفاز، ففى ذلك تعدٍ، بل وتحدٍ لجموع من ثاروا عليهم، باعتبار أن الأمة لا تُجمع على باطل، أو على خطأ.
●●●
كانت هذه ملاحظاتنا الأولية، ولكن باعتبارى باحثا أكاديميا، لا تهمنى سوى الحقيقة والنتائج الموضوعية أيا كانت، أعترف بأننى بعد سماعى هذا اللقاء الذى امتد ثلاث ساعات تقريبا، على ست حلقات، استمرت كل منها حوالى نصف الساعة، تغير موقفى، ولعل من أهم أسباب هذا التغير هو حِرَفية المذيع المحاور الذى تطرق لجوانب هامة صعب تناولها، تحاور معها فى جوانب حساسة من حياتها الخاصة، ومن حياة أسرتها مع والدها الرئيس، وهذا سمح لنا بأن نكتشف جوانب خفية فى أسرة الرئيس لا يمكن معرفتها إلا من خلالها، كشفت لنا حقيقة شخصية الرجل، ومن ناحية أخرى هو محاولة السيدة رغد أن تكون موضوعية قدر الإمكان.
ظهرت موضوعيتها من خلال إجابتها على سؤال طرحه المحاور ــ فى الجزء الثانى ــ عن شعورها نحو أبيها بعد مقتل زوجها حسين كامل المجيد الذى انشق عن أبيها، وبعد عودته من الأردن التى لجأ إليها هو وأسرته: «هل رضيت عن محاولة والدك لإرضائك بعد قتل زوجك؟» فكانت إجابتها واضحة ومقتضبة: «لا»!، وعن سؤال ثان حاولت أن تكون فيه موضوعية عندما سُئِلَت عن رأيها فى حرب الكويت، أجابت: «أخطئوا فى حقنا، وأخطأنا فى حقهم» (أى واحدة بواحدة)!
كانت صادقة فى إجابتها عن السؤال الأول، وذلك لأن الضرر وقع على شخصها مباشرة وعلى أولادها وعلى مستقبلهم جميعا، ولكن فى إجابتها عن السؤال الثانى، أرادت أن تُبرر خطأ أبيها، إلا أنها، فى الحقيقة، وقعت فى المحذور، فقد كشفت عن أسلوب خاطئ وهمجى كان يتبعه الرئيس صدام فى سياساته، وهو أن «الخطأ يُعالج بالخطأ»، وهى لا تعلم بأن هذا المبدأ يفتح الباب على مصراعيه لقانون الغاب، فكأنما نقول، على سبيل المثال، من حق أى أحد أن يسرق من سَرَقه، أو أن يقتص لنفسه بعيدا عن القانون، فهذا هو مفتاح منهجية التفكير عند كل الحكام الديكتاتوريين: «لا احترام للقانون، ولا للحوار مع الآخر»!
ومن ناحية أخرى، كشفت بعض إجاباتها عن «الغرور» و«الاستعلاء» الذى يكتسبه أبناء أى رئيس مستبد، خاصة إذا استمر فى الحكم سنوات طويلة، فعند سؤالها عن وجهة نظرها فى أوضاع العراق الحالية، قالت فى جملة اعتراضية: «نحن أسياد بلد، ومسئولين عن وطن»!، ثم أضافت: «العراقيون تحملوا كثيرا بعد الاحتلال»، إجابتها التى تحاول من خلالها إثارة غضب المشاهد ضد الاحتلال، وضد الأوضاع بعد سقوط حكم والدها، تفتقد للموضوعية، فهى بالطبع لا تعلم أن الحاكم المستبد هو أيضا مُحتل لوطنه، كلاهما يُخرب الأوطان، ويُضَيِّع ثرواته، بل ويستأثر بها لنفسه كأنما هى ملك خاص له، لا يحاسبه عليها أحد، فضلا عن إذلال الشعوب بحرمانها من حرياتهم!
●●●
هذه هى الحقيقة المُرَّة، أن كل ما يحاول الحفاظ عليه، كلا من المحتل والحاكم المستبد، هو «توفير لقمة العيش» للشعب وفقط، وهذا بالضبط ما عبَّرت عنه السيدة ابنة الرئيس، فى محاولة لتجميل عصر أبيها: «أن الناس كانت عايشة»!، وكأنما غاية ما يطلبه أى شعب من حاكمه هو أن يجد قوت يومه، وليس له الحق فى المشاركة لا فى الحكم، ولا فى ثروات وطنه، ولا فى رسم مستقبل بلاده، ولا فى محاسبة المسئولين على أخطائهم!
وأما المغالطة الكبرى فى حديثها، فقد جاءت فى قولها، فى الجزء الرابع، أن الرئيس صدام كان «الدرع الحصين للأمة، وبمماته استبيحت الأمة»، والعكس هو الصحيح، فالواقع يقول إن سياسة الرئيس صدام، وطريقة حكمه التى لا تقبل لا النصيحة، ولا الرأى الآخر هى التى جعلت الأمة مُستباحة، وأعطت الفرصة الذهبية لعودة المستعمر الغربى بصورته القديمة والبغيضة!
هكذا نلاحظ أن منهجية التفكير، سواء كانت على المستوى الشخصى أو المستوى العام، وطريقة قيادة الأسرة أو قيادة الدولة للرئيس صدام، ولأمثاله، هى سواء، فهى لم تُخرِّب أوطانهم، وتقضى على شعوبهم فقط، ولكنها أيضا هدمت ودمرت أسرهم؛ أقوال السيدة رغد تثبت، بل تؤكد هذه الفرضية، وتحولها لحقيقة، فعندما حكت عن ظروف زواجها الذى تم وهى مازالت فى الخامسة عشرة من عمرها! (وهذه فى حد ذاتها انتهاك لحقوق الطفل العالمية!)، وكيف أن والدها استشارها، وقال لها لن أُجبرك على اختيار زوجك، وذلك للتدليل على «ديمقراطيته»، نقضت، دون أن تدرى، هذه الفكرة عندما قالت إن والدها صدام أجبرها على الطلاق من زوجها بعد الخلاف الذى وقع بينهما! فضلا عن أنه يَتَّم أحفاده بقتل أبيهم!
●●●
وختاما، لا يمكننا أن ننهى هذا المقال دون الإشارة لدور صراع الأبناء على السلطة فى هدم الأوطان، كانت فكرة التوريث تسيطر على كل أبناء رؤساء الجمهوريات فى الوطن العربى، بعد تطبيقها فى سوريا، وكانت نهايتها معلومة للجميع، وهو سقوط كل هذه النظم التى سعى فيها الرؤساء لتوريث الحكم لأبنائهم، وكان الشعب المصرى هو الأول الذى رفض هذا المبدأ، فقد كان أحد الأسباب الرئيسية لسقوط حكم الرئيس الأسبق مبارك، الذى لم يستطع تفسير الحالة العراقية، واعتمد على الحالة السورية.
وهذا ما أُشير إليه فى الجزء الثانى من الحوار، عندما سُئلت السيدة رغد عن سبب الخلاف بين والدها وزوجها، تحفظت على الإجابة، ولكنها قالت إن زوجها كان «الرجل الثانى» لصدام، وأنه كان «لامعا»، ثم أضافت أن تدخل «جهات داخلية» ــ دون تحديدها ــ هى التى أجَّجَت الصراع بين الطرفين، وفى اللحظة التى قالت فيها هذه المقولة، تدخل مخرج الحلقة بإشارة سيميائية سينمائية (Cine - Semiotics)، أَظهرت على الشاشة مشهدين: الأول، لزوجها وهو يُستقبل بحفاوة من بعض المسئولين، وتابعها المخرج بمشهد ثان ظهرت فيه صورة لزوجها وبجواره عُدَيّ الابن الأكبر للرئيس، وهو جالس بجانبه، والاثنان جالسان على مقعدين متماثلين فى أحد الاجتماعات العامة أمام الجماهير، فيما يوضح التنافس بين الطرفين!
كانت هذه إشارة واضحة من طرف المخرج فسَّرَت سبب المشكلة التى كانت سببا رئيسيا فى تدمير العائلة الصدَّامية، وفى سقوط النظام والوطن العراقى كله فيما بعد، وقد تكررت الحالة العراقية فى كل الجمهوريات العربية، فيما بعد، دون أن يتعلم منها أحد!.