نشرت جريدة عكاظ السعودية مقالا للكاتب أسامة يمانى، تناول فيه تحليل الاستراتيجية التى تبناها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى السياسة الخارجية، والتى قامت على تفضيل «القوة الصلبة» (العسكرية والاقتصادية) على «القوة الناعمة» (الدبلوماسية والثقافية)، وذلك انطلاقًا من رؤية واقعية لتحولات النظام العالمى، ووعى بمحدودية تأثير القوة الناعمة التقليدية فى عالم تتصاعد فيه التحديات الحضارية والتنافس بين النماذج التنموية.. نعرض من المقال ما يلى:
ظل الرئيس الأمريكى دونالد ترامب يتبنى مقاربة مغايرة تماما لمفهوم «القوة الناعمة» كما صاغه المفكر جوزيف ناى، حيث مال بقوة نحو تعظيم أدوات «القوة الصلبة»؛ ممثلةً فى التفوق العسكرى والضغوط الاقتصادية، على حساب الأدوات الدبلوماسية والثقافية التى تشكِّل جوهر القوة الناعمة.
وقد لخّص ناى هذا التحول فى مقال له بمجلة «فورين أفيرز» (2018) حين أشار إلى أن سياسات ترامب القومية ومواقفه تجاه الحلفاء أسهمت فى تراجع القوة الناعمة الأمريكية.
كما أكد فى كتابه «The Future of Power» أن المزج المتوازن بين القوة الصلبة والناعمة يبقى ضروريا للقيادة العالمية، الأمر الذى تهمله بعض الإدارات الأمريكية.
يتمثّل هذا الإهمال فى سياسة «أمريكا أولا» التى قادت إلى انسحابات متتالية من تحالفات ومؤسسات دولية كبرى مثل منظمة الصحة العالمية، واتفاقية باريس للمناخ، مما يضعف الأدوات الدبلوماسية الأمريكية. كما تجلّى فى القرارات المالية التى استهدفت تقليص برامج التبادل الثقافى مثل «فولبرايت» وهيئات الإعلام الدولى مثل «صوت أمريكا»، ناهيك عن خطط خفض ميزانية الخارجية بنسبة 50% التى كشفت عنها «رويترز» والتى كانت ستؤدى إلى إغلاق عشرات البعثات الدبلوماسية.
فى المقابل، يذهب بعض المؤيدين للرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى أن أساليبه المباشرة فى التواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعى يشكّل نوعا من القوة الناعمة، إذ نجح فى استقطاب قاعدة شعبية عريضة فى العديد من الدول عبر خطابه المعادى للنخب التقليدية. فى حين يرى بعض الخبراء أن هذا الأسلوب زاد من حدة الاستقطاب الدولى أكثر مما ساهم فى تعزيز الجذب الثقافى أو السياسى الأمريكى.
فى الواقع، يبدو أن ترامب - بعيدا عن الانطباع السائد - كان يمتلك وعيا حادا بمحدودية تأثير القوة الناعمة فى ظل التحولات الجذرية التى يشهدها النظام الدولى. لقد أدرك باكرا أن زمن الهيمنة الأمريكية الأحادية قد ولّى، وأن العالم يشهد صعود قوى جديدة تتحدى الثنائية الصلبة/ الناعمة التقليدية. تصريحاته الأخيرة فى الرياض، حيث انتقد «بناة الأمم» ومحاولات فرض الثقافة الأمريكية، تعكس فهما عميقا لتحولات العصر: فالشعوب اليوم ترفض الهيمنة الثقافية كما ترفض الهيمنة السياسية، وهى تصنع نهضتها معتمدة على مقوماتها الحضارية الخاصة.
لقد اختار ترامب عن قصد التركيز على القوة الصلبة ليس لأنه يجهل أهمية القوة الناعمة، بل لأنه رأى أن زمن القوة الناعمة التقليدية - بآلياتها وخطابها - قد ضعف. فى عالم تتصارع فيه الحضارات أكثر من أى وقت مضى، وتتنافس فيه النماذج التنموية قبل أن تتنافس الرؤى الثقافية، كان ترامب يقدم قراءة واقعية - وإن كانت قاسية - لطبيعة المرحلة الانتقالية التى يعيشها النظام العالمى. ربما يكون التاريخ هو الحكم الأفضل على مدى صحة هذه الرؤية من عدمها.