دعنا نذكّر أنفسنا بأنه فى عام 1950، أى قبل ثلاثة أرباع القرن قرر مجلس الجامعة العربية توقيع معاهدة الدفاع المشترك الذى نصّت على أن أى اعتداء يقع على أى من الموقعين يعتبر اعتداءً على كل الموقعين، وبالتالى يبادر الجميع على إعانة الدولة المعتدى عليها، بما فى ذلك استخدام القوة العسكرية لردّ ذلك الاعتداء. بل أضاف الموقعون مادة بالغة الأهمية تقول بأنه فى حالة أية أخطار دولية مفاجئة يقوم الموقعون بتوحيد خططهم لاتخاذ التدابير الوقائية لمواجهة ذلك الخطر. وأنشأوا لجنة عسكرية مشتركة من أركان حرب الجيوش الأعضاء لتنظيم كل ذلك وتنفيذه، كما أنشأوا مجلس دفاع مشترك من وزراء الخارجية ووزراء الدفاع الوطنى.
كانت هناك إرادة سياسية عربية قومية واحدة تؤمن بأن كل خطر أو عدوان على أى قطر عربى إنما هو خطر على الجميع. كان حلم الوطن العربى الواحد المتضامن يملأ القلوب والعقول.
من هنا قرار مؤتمر القمة العربى الأول فى عام 1964 بإنشاء قيادة عامة موحدة لقوات الدول العربية، وقرار مؤتمر القمة الثالث عام 1965 بتوقيع ميثاق التضامن العربى الذى أكد على أهمية التضامن العربى فى معالجة القضايا العربية وعلى الأخص مواضيع من مثل تحرير فلسطين وسيادة الدول العربية والرفض التام لأى تدخّل فى شئونها الداخلية. وأخيرًا، وبصورة مكمّلة، وتأكيدًا على أن الأمن القومى لا يتمثّل فقط فى الجانب العسكرى، أضاف مؤتمر القمة الحادى عشر فى عام 1980 ميثاق العمل الاقتصادى القومى العربى.
ولكن وابتداء من ذلك العام بردت الهمم، وتوقفت أحلام الأمة الكبرى، وأضعفت حيوية ومبادرات الجامعة العربية ومؤتمرات القمم العربية، فكان أن توقف الحديث عن الأمن القومى العربى بكل أشكاله ومستوياته. الآن نقترب من مرور نصف قرن ونحن نعيش كل الأهوال الناتجة عن ذلك التوقّف المأساوى فى مسيرة هذه الأمة المشتركة.
اليوم نقف أمام مشهد عربى مفجع جديد: بعض من الأقطار العربية الرئيسية دمّرت، وبعض من الأقطار أصبح مستباحًا فى كل جوانب حياته، وبعض تمزقه الصراعات الداخلية العنفية المجنونة باسم دين الإسلام الحنيف، وبعض تراجع فى مستواه الحضارى عدة قرون إلى الوراء وهاجر ملايينه إلى المنافى، وعاد الاستعمار الغربى إلى البقع التى أجبرته قوى التحرير والاستقلال العربية على تركها فقط منذ بضعة عقود، وأصبح الكيان الصهيونى الذى اعتبر سابقا رسميا فى كل الاجتماعات العربية بأنه يمثل التهديد الرئيسى للأمن العربى القومى يلعب دورا رئيسيا مهيمنا ومطاعا فى الحياة العربية كلّها والآن يمارس حرب إبادة وتدمير فى غزة العربية وجنوب لبنان العربى وفى سوريا والعراق واليمن، ويهدد قادته يوميا بإزالة شعوب وأقطار عربية أخرى من الوجود. يحدث كل ذلك بينما تقبع فى الأدراج كل القرارات والمواثيق والاتفاقيات التى أمضى عليها كما ذكرنا سابقا من قبل رؤساء كل الدول العربية، تقبع منسية ولا حتى يشار إلى إمكانية نفض الغبار عنها فى أى من اجتماعات الجامعة العربية أو مؤتمرات القمة العربية أو غيرها من الاجتماعات مع الدول الإسلامية الكثيرة. حلّ محلّ شعار الأمن القومى المشترك شعار السيادة الوطنية التامة لكل قطر على حدة، وأصبح الخلاص الذاتى هو الهدف الذى لا يعلو عليه أى هدف آخر.
فى هذه اللحظة التى يموت فيها الآلاف من عرب فلسطين وجنوب لبنان على يد جيش ومستوطنى الكيان الصهيونى بصور مأساوية إجرامية لم يعرف تاريخ البشرية مثيلاً لها، لا نسمع عن دولة عربية واحدة، نعم فقط دولة عربية واحدة، تتقدم إلى الجامعة العربية أو القمة العربية باقتراح مناقشة موضوع الأمن القومى العربى والنظر إن كان من الممكن تفعيل أى بند من بنوده. لكان موضوع الأمن القومى العربى قد أصبح يرقد فى النّعش وأصبح عارا على من يتحدث عنه. والغريب أنه حتى إبّان بعض المظاهرات الشعبية العربية النادرة التى تخرج فى بعض الأقطار العربية لا يطرح هذا الشعار بصورة قوية واضحة، لكأن قوى المجتمعات المدنية العربية الشعبية قد تخلّت عن هذا الموضوع.
أسرد قصّة وتاريخ هذا الشعار القومى التحررى التضامنى، الذى كانت له صولات وجولات فى القرن الماضى، أطرحه على شابات وشباب الأمة العربية كجزء من محاولة إحياء الذاكرة الجمعية العربية التى يسعى الاستعمار الغربى وتسعى القوى الصهيونية إلى طمسها ونسيان كل شعاراتها القومية الوحدوية حتى يستفرد الاثنان بكل قطر عربى على حدة ويمارسا اجتياح كرامته واستقلاله وأمنه ليكون عبدا طيعا لرغباتهما وأحلامهما الهادفة لتمزيق هذه الأمة وإخراجها من التاريخ.
نحن أمام أكبر تحدّ عرفته هذه الأمة عبر تاريخها الطويل ويحتاج إلى أقوى إرادة عربية مشتركة لمواجهته.