تمخض البرلمان فرفض قانونا يتيما، حاول واضعوه أن يقيموا بعضا من عوج الجهاز الإدارى فى مصر، بينما تم تمرير ما يربو عن 340 قانونا آخر فى بضع جلسات!. رفض مجلس النواب لقانون الخدمة المدنية يعنى أحد أمرين، إما إن سائر القوانين الأخرى قد نوقشت ثم تمت الموافقة عليها أو إن أيا من القوانين لم يأخذ حظه من المناقشة، ومع هذا فقد تم رفض هذا القانون بالذات لتحقيق مكسب سياسى فى الشارع، ولإثبات أن المجلس لا يبصم على القوانين بغير رأى، شخصيا أرجح الاحتمال الثانى، وأرجح أن السادة النواب لم يدرسوا القانون أو تداعيات رفضه.
من أبرز التداعيات المباشرة لرفض القانون إلغاء القرار بقانون رقم 96 لسنة 2015، بتعديل بعض أحكام قانون الضريبة على الدخل والذى رفع حد الإعفاء الضريبى للموظف من 5000 جنيه سنويا إلى 6500، وإلغاء القرار بالقانون رقم 117 لسنة 2015 بتعديل بعض أحكام قوانين التأمين الاجتماعى، والذى نفذ هيكل الأجور الجديد بالأجر الوظيفى والمكمل، وهو ما انعكس بشكل إيجابى على معاش الموظف. كذلك يترتب على رفض القانون إلغاء قرار وزير التخطيط رقم 122 لسنة 2015 بشأن معايير وآليات التطوير التنظيمى، والذى صدرت بناء عليه الهياكل التنظيمية لعدد من الوزارات، منها وزارة المالية ووزارة الصحة ووزارة الآثار ووزارة الثقافة ووزارة التعليم العالى، والهيكل النمطى لجميع المحافظات المصرية، وعدد كبير من الهيئات العامة، كذلك قام النواب- ضمنا، بإلغاء تطوير إدارات شئون العاملين لتتحول إلى إدارات للموارد البشرية، تعنى بتخطيط وتنظيم وتنمية الموارد البشرية ومتابعتها لتحقيق أهداف كل من المنظمة والعاملين فى ضوء الظروف البيئية المحيطة، وتشكل لها لجان مختصة ممثل فيها أعضاء اللجان النقابية.
كما تم إلغاء منظومة الشفافية والكفاءة فى التعيينات، حيث نص قانون الخدمة المدنية– المرفوض فى مادته رقم 13، على أن: «يكون التعيين بموجب قرار يصدر من رئيس الجمهورية أو من يفوضه، على أساس الكفاءة والجدارة، دون محاباة أو وساطة من خلال إعلان مركزى على موقع بوابة الحكومة المصرية، متضمنا البيانات المتعلقة بالوظيفة وشروط شغلها على نحو يكفل تكافؤ الفرص والمساواة بين المواطنين». كذلك ترتب على رفض القانون إهدار للمال العام الذى أنفق على إعداد منظومة التعيينات الجديدة الواردة بقانون الخدمة المدنية، حيث قامت وزارة التخطيط بإنشاء بنك أسئلة وتطوير تطبيق إلكترونى، فضلا عن تطوير ستة مراكز للامتحانات بالأقاليم الاقتصادية بالجمهورية.
***
ترتب على رفض القانون أيضا إلغاء المزايا المقررة لذوى الاحتياجات الخاصة، حيث تضمنت اللائحة التنفيذية للقانون الملغى على تخفيض ساعات العمل اليومية لذوى الإعاقة بمقدار ساعة، فضلا عن إضافة خمسة عشر يوما إلى رصيد الإجازات الاعتيادية الحالية. كما صوت النواب والنائبات على إلغاء المزايا المقررة للسيدات، ومنها تخفيض ساعات العمل اليومية بمقدار ساعة للموظفة التى ترضع طفلها وحتى بلوغه العامين، وزيادة إجازة الوضع التى تستحق للموظفة من ثلاثة إلى أربعة أشهر بحد أقصى ثلاث مرات طوال مدة عملها بالخدمة المدنية.
كذلك ترتب على رفض القانون، إلغاء العلاوة الدورية والتى أصبحت 5% من الأجر الوظيفى، وهو ما يزيد كثيرا عن الأجر الأساسى، فى حين أن العلاوات الدورية كانت تتراوح بين 1.5 إلى 6.25 جنيه شهريا، وإلغاء العلاوة التشجيعية والتى أصبحت 2.5% من الأجر الوظيفى، بدلا من 1.5 و6.25 جنيه شهريا.
من التداعيات المباشرة لرفض القانون إلغاء التقسيم الجديد للأجر الوظيفى، والذى أصبح يمثل نحو 75% من إجمالى الأجر بدلا من 25% فى الوضع السابق وهو ما تسبب فى اتساع الهوة فى الأجور بين العاملين بالدولة، كذلك إلغاء الترقية كل ثلاث سنوات حيث كانت فى ظل القانون 47 تتم كل ثمانى سنوات.
من مزايا القانون المرفوض أيضا محاولته فتح الباب أمام القيادات الشابة، إذ حرص على بناء صف ثان من القيادات داخل الجهاز الإدارى للدولة، وذلك باستحداث وظيفة من المستوى الأول أ (تعادل مدير إدارة حاليا)، يكون شغلها بمسابقة لمدة ثلاث سنوات، وتخول شاغليها جانبا من الإدارة الوسطى بأنشطة الإنتاج والخدمات أو تصريف شئون الجهات التى يعملون بها، أو إدارة فرق عمل، أو مجموعات من الموظفين لأداء مهمات متجانسة، كما حاول القانون الملغى فتح المجال لترقية الكفاءات بالاختيار وذلك دون التقيد بالأقدميات وبالنسب المقررة بجدول الأجور المرفق بالقانون.
هذا لا يعنى أن القانون كان مثاليا خاليا من العيوب، بل شأنه شأن سائر التشريعات يحتاج إلى مزيد من الدراسة، ليحدث قدرا من التوازن بين حاجة المواطن من الخدمات، ومتطلبات موظف الدولة من الرعاية والإمكانات، لكن رفضه نهائيا بهذا الشكل الاستعراضى لم يكن موفقا، وأظنه سوف يمر قريبا بقليل من التعديلات.
***
كان من المتوقع أن أى اقتراب من الجهاز الإدارى للدولة أو من القانون رقم 47 لسنة 1978، سوف يواجه بمقاومة شديدة من هذا الجهاز المترهل الذى يشتمل على كثير من صور البطالة المقنعة «قدرها رئيس الجمهورية فى خطابه الأخير بنحو 6 ملايين من أصل 7 ملايين!»، لأن الحقوق المكتسبة التى تراكمت فى المصالح الحكومية عبر سنوات لا يمكن أن تنتزع بغير ألم. يقينى أن الإصلاح الحقيقى فى مصر لن يتم بإشعال الحماس وترديد الأغانى، لكن بالتضحية والمشقة، على أن يدفع كل منا نصيبه من ضريبة التضحية، وألا تكون قاصرة على من لا ظهر له، كيما تتحقق العدالة فى توزيع الأعباء ولا أقول المساواة، لأن ما يمكن أن يحتمله الأغنياء أكثر كثيرا من طاقة الفقراء وساكنى عشش الصفيح.
المشكلة إذن أكبر من قانون للخدمة المدنية، فسوف تواجهنا أزمات كثيرة إذا نكأنا جروح الماضى التى التأمت على فساد. تنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر ــ على سبيل المثال، تظل معضلة بعد أن أفسدتها قوانين سابقة كان هدفها شعبوى لا تنموى، فالاستكثار من الأنصار و«الهتيفة» ظل هدفا غالبا على كثير من القرارات والقوانين المنظمة للعلاقات الاقتصادية بين أفراد ومؤسسات مجتمع ما بعد يوليو 1952. قانون الإصلاح الزراعى الذى صدر على عجل عام 1952 كانت له مزاياه، لكنه ظل مثالا واضحا على الانحياز غير المدروس لبعض الفئات التى تصير بمرور الوقت أكثر المضارين من هذا الانحياز. تفتيت الملكيات الزراعية حرم المصريين من مزايانا التنافسية فى الإنتاج الزراعى، وحرمنا من اقتصاديات الحجم، إذ جعل الاستفادة من الميكنة الحديثة فى زراعة المساحات الكبيرة من الأرض أمرا مستحيلا. والأمثلة كثيرة.
***
لا أريد نبش الماضى لكننى ألفت الانتباه إلى ضرورة البحث فى جذور المشكلات حتى يتسنى علاجها، وإلا سوف نظل قرونا نعالج فى أعراض المرض وليس أسبابه، أما لو أردنا علاجا ناجعا للمرض فيجب على سلطات الدولة إدراك أن الصالح العام للوطن كثيرا ما يتعارض مع مصالح فئوية وإن كثر المستفيدون منها، بل إن متطلبات التنمية المستدامة تفرض علينا أن نضحى بكثير من حاجات الأجيال الحالية من أجل حاجات أبناء المستقبل. استمرار سير المقطورة مثال صارخ على غلبة فئة من أصحاب المصالح على حاضر الوطن ومستقبله، إذ تستنزف حوادث الطرق (ونصيب المقطورة منها كبير) ما يقرب من 12 ألف ضحية سنويا هى أثمن ثروات مصر ورأسمالها البشرى الذى لا يعوض؟. لو أردنا لمصر أن تنهض فعلينا أن ننفض عنها غبار عشرات السنين، وأن نحتمل من أجل ذلك بعض الاختناق.
بقى أن نؤكد على حقيقة عادة ما نغفلها فى معرض مناقشة قانون الخدمة المدنية، إذا أمكن للدولة أن تعمل بكفاءة وأن تتوافر لديها البنى الأساسية والموارد المناسبة والنظم الإدارية الحديثة، فإن سبعة ملايين موظف فى أجهزتها الإدارية لن يكون رقما كبيرا، بل على العكس، سوف نعمل على زيادة نسبة الأطباء للمرضى وزيادة نسبة المعلمين للتلاميذ، لتقترب من النسب العالمية، لكن شريطة ألا تكون التعيينات على سبيل الإعانة الاجتماعية أو المجاملات بل لتوفير خدمة حقيقية للمواطن وقد كان ذلك أحد أهم أسباب تسمية القانون محل الجدل بقانون «الخدمة المدنية».
خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل