أهم أهداف الإسلام بعد الإيمان بالله وبكتبه وبرسله أجمعين هو تأسيس مجتمع مبنى على نظام اقتصادى يحقق العدالة الاجتماعية، ويقضى على احتكار رأس المال لشخص أو لمجموعة، حتى لا يتحكمون فى مقدرات الأمة، باعتبار أن المال مال الله، وأن الإنسان مستخلف فيه، هكذا نجد الوصف القرآنى فى مفهوم توزيع المال على كل فئات المجتمع دون تمييز لأبناء دين معين: «مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ» (الحشر ــ7)، ولهذا نجد كل التشريعات الإسلامية تهدف لتحقيق هذا الهدف.
وقد اتبع الإسلام أربعة طرق فى سبيل تحقيق هذا الهدف، فسخر لهم وسيلتين لتحقيقهم، فيما أسميناه أولا بـ«الإنفاق الإجبارى» فى الإسلام (الفرائض)، ويتمثل فى: 1ــ العبادات، 2 ــ أحكام الميراث، 3ــ الكفّارات، وثانيا الطريق الرابع «الإنفاق الطوعى»: (الصدقات)، وكلاهما يؤدى فى النهاية إلى تحقيق مفهموم «تفتيت الملكية الخاصة».
أولا: الإنفاق الإجبارى
1ــالعبادات، يتضمن الإسلام ركنين من خمسة معنيين بهذا الهدف وهما الزكاة والحج.
وأهم أنواع الزكاة هى زكاة المال التى تُفرض على قيمة المال والذهب والفضة التى يمر عليها عام كامل دون تفعيلها فى المجتمع، وتقدر بنسبة 2,5%، وهذا يعنى أن هذه المُمتلكات تنتهى بأكملها بعد أربعين عاما، لأن هذا المال تم «تكنيزه» أو «احتكاره» فى ذِمّة شخص واحد لعام كامل، حَرم منه المجتمع فى تنمية اقتصاده، أما فى حال استثمار المال فى أى مشروع تكون الزكاة على العائِد الصافى فقط، لأن المجتمع استفاد من هذا المال.
هذا ما يسرى على الأرض الزراعية (زكاة الزرع)، تكون زكاتها على قيمة حصادها، وليس على ثمنها الأصلى، كما يجب ــ من وجهة نظرنا ــ أن يسرى هذا أيضا على أرض البناء التى تُترك دون استفادة سوى «تسقيعها»، مما يعتبر «احتكارا»، أما إذا بُنيَت عليها عمارة سكنية، تصبح الزكاة على عائدها، وعليه فإن كل ظواهر «الاحتكار» هى بالقطع مُحرمة شرعا: «والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم» (التوبة 34)، ومفهوم «التكنيز» فى الآية هو «الاحتكار».
وفضلا عن أنها تحارب الاحتكار، فإن الزكاة تدعم التكافل والتضامن الاجتماعى، وتنشر التراحم بين أفراد المجتمع بكل أطيافه، لا فرق بين مسلم وآخر، كما سبق التوضيح، ومن هذا المنطلق فرض الإسلام «الدِيّة» على أهل «الذمّة»، التى فسّرها المتطرفون بأنها «فِديَة» لغير المسلمين، ولكن الحقيقة أنها كانت بديلة عن الزكاة التى كان يدفعها المسلم لـ«بيت مال» الدولة التى نشأت فى صدر عصر الإسلام، مقابلا لما يتلقاه من رعاية وخدمات تقدمها الدولة للجميع دون تمييز.
ووجَب علينا بالمناسبة توضيح المعنى الحقيقى لمصطلح «أهل الذِمّة» الذى يعنى أن غير المسلمين هم «أمانة» لدى الحاكم يحافظ على حقوقهم فى دولة أغلبها من المسلمين، وليس وصفا للتمييز السلبى، كما أراد أن يُفَهِّمُنا أعداء الجمال من المتطرفين.
وبما أن مفهوم الدولة الحديثة قد تغير، وحل محل «بيت المال» «وزارة المالية»، واستُحدث مفهوم «الضرائب»، وأصبحت المواطنة هى الأصل، وطبقا لما سبق شرحه ــ فى مقالنا السابق «الخطاب الدينى.. تجديد أم تجميل» ــ أن «الحكم فى الإسلام مرتبط بعلّته وجودا وعدما»، فلم يعد هناك صحة لوجود «الدِيّة» أو «أهل الذمّة» فى العصر الحاضر، حيث إن الدولة الحديثة قد استبدلت «الزكاة» بـ«الضرائب»، مِثل هذا الإلغاء فعله عمر بن الخطاب (رضى الله عنه)، عندما رفض الاستمرار فى دعم «المُؤلّفَة قلوبهم»، وهو نص قرآنى، لأنه رأى أن من شاء أن يدخل الإسلام فليدخله بقناعته فقط، مستحضرا المفهوم القرآنى: «لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ» (البقرة 256).
وفى سياق فكرة «تفتيت الملكية الخاصة»، يُعتبر الحج – الرُكن الخامس الذى أَعفِى الله منه الفقير ــ بأنه طريقة إنفاق «إجبارى» للقادر، يُشترط لقبوله أن تكون تكاليفه مناسبة للمستوى المالى للراغب فى أداء المناسك، فهى زيارة لبيت الله يجب أن يُقابِل فيها الحاج ربه بما أنعم به عليه «وأما بنعمة ربك فحدث» (الضحى 11).
***
2ــ أحكام الميراث هى الطريقة الثانية التى تدعم مفهوم «تفتيت الملكية»، فالشخص فاحش الثراء تُفتّت ثروته بعد وفاته، ولا يُصبح ورثته بنفس قدر ثرائه، إلا فى حالات نادرة، أن يكون له وريث واحد – بإرادة الله ــ لأن الثرى دائما يسعى لكثرة الإنجاب، حماية لأمواله من أن تنتقل لدرجة أبعد من أبنائه، ويدخل أيضا فى مفهوم «الإنفاق الإجبارى» ما نص عليه الشرع بإعطاء جزء من المال لمن حضر القسمة: «وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا» (النساء 8).
3ــ الكفّارات، هى الطريقة الثالثة التى تُسهم فى تفتيت الملكية الخاصة، وهى الأموال التى تُدفع مقابل التكفير عن ذنب كالحنث باليمين، وكفارته إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم بقدر السعة المالية للمُذنب، أو «إعتاق رقبة»، ومن لم يستطع فصيام ثلاثة أيام، والقتل الخطأ كفارته دفع «الدية» بالإضافة إلى «إعتاق رقبة»، وكذلك فى حال القتل المُتعَمّد، بشرط قبول أهل القتيل، عوضا عن القصاص، كما فى قوله «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عليكُمُ الْقِصَاصُ فِى الْقَتْلَى الحُرُّ بِالحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَىٰ بِالُأنْثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ» ﴿البقرة ١٧٨﴾، وفضلا عن «الإنفاق الإجبارى» فى الكفّارات فهى تدعم القضاء على العبودية، وتُقلل من الإعدام فى القصاص، وهذا ما تَوجه إليه العالم الحديث لإلغاء عقوبة الإعدام.
ومن هنا نرى أن الإسلام أعطى الإشارات الأولى لمبادئ الإنسانية الرفيعة، تلقفتها الحضارات الأخرى واستمرت فى تنميتها وتطويرها، أما فقهاؤنا فقد توقفوا عند المراحل الأولى، وتركوا المسيرة لجمود المتطرفين، فأفسدوا كل مفاهيم التسامح والعدل والحرية، ودعوا إلى الكراهية والعنف والعنصرية، فقَضوا على كل جميل فى الإسلام، كما هو حال المتعصبين فى كل الديانات.
ثانيا: الإنفاق الطَوعى
لقد ترك الله سبحانه باب الصدقات مفتوحا على مصراعيه، فقرن الإيمان بالإنفاق: «لن تنالوا البِرَّ حتى تُنفِقوا مما تُحبون» (آل عمران 92)، وكما حبّذ الله الإنفاق، فقد حذّز من عواقب البُخل فقال: «وأنفِقوا فى سَبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التَهلكة» (البقرة 195)، وقرن الله البخل بالكفر: «الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا» (النساء 37).
هذه هى عناصر «تفتيت الملكية الخاصة» فى الفكر الاقتصادى الإسلامى، لتحارب الاحتكار والاستغلال والفوارق الطبقية، ولتدافع عن الفقراء والضعفاء، لبناء مجتمع العدل والرحمة والتكافل والمساواة بين الناس، وسامح الله فقهاءنا وعلماءنا المعاصرين الذين تركوا المجال فسيحا لدعوات التعصب والعنف والجهل الذى أساء إلى الإسلام والمسلمين، فاهتموا بالشكليات وبالنقل وبالتقليد ودون العقل، وتركوا الجهاد الحق الذى دعا إليه الإسلام وهو الاجتهاد فى استخراج القيم الإنسانية النبيلة.. والله أعلم.