فى علم الإدارة ربما قرأت عن دائرة الإحباط circle of frustration، كيف يدخلها المدير أو القائد فلا يزال يراوح مكانه أو يدور فى دوائر مفرغة كلما حاول أن ينطلق بمؤسسته إلى الأمام. لكن إذا أسند إليك عمل قيادى فإن منظور تلك الدائرة يختلف تماما، وإدراكك لها موقوف على حجم المسئولية وتعقيدها الذى ربما يدور بك أعواما قبل أن تشعر أنك كنت فى نفس المكان من قبل، وأنك لم تتقدم شبرا واحدا إلى الأمام.
فى بلادنا احترف البعض صناعة دوائر الإحباط على نحو خلاق! متاهات نسجت أرضيتها من لوائح وتعليمات وإجراءات عقيمة تستهلك طاقة كل من أراد التغيير. تستنزف عزيمته وإصراره على تحقيق النجاح، ثم تطفئه بعد امتصاص الهواء من حوله، أو تدفعه بعيدا إلى حيث يصبح عاملا جديدا لتغذية الدائرة من الخارج، ولتعزيز مقومات الإحباط.
الدائرة مدخلها رحب فسيح، يستقبلك بعض صانعيها بالورود والرياحين، ينصبون لك فخا أنيقا حتى تبدأ فى الدوران. فلا تكاد تقترب من الدائرة حتى تلمح بابا ظاهره الرحمة وباطنه من قبله العذاب، يقسم لك زبانيته أن ما يتردد عن الفساد والهدر المؤسسى لا صحة له، وأن مؤسستهم الغالية قابلة للإصلاح من الداخل لو أن أحدهم قادها بجد ونشاط! الهدف هو استدراجك إلى حيث تلتهم طاقتك وتستنزف عزيمتك أثناء الدوران، فإذا انتبهت إلى هذا الفخ مبكرا فلا تدخل الدائرة، واحرص على أن تشق لنفسك طريقا خارجها، هو ما يسميه البعض التفكير خارج الصندوق، ومنهم من يحسب أنه يفكر خارج الصندوق بينما هو قابع فى ظلماته منذ الأزل.
الدائرة نسيجها محفوظات و«كلاشيهات» يتم ترديدها على مر السنين، من أمثال: «إنا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون»، و«لن ينصلح هذا الأمر حتى يتغير الوضع» و«لقد حاول الكثيرون قبلك وكانت النتيجة سلبية» و«انتظر حتى يفعلها من يأتى من بعدك»... هذا النسيج المحبط المثبط للهمم لا يمكن أن يتغير معه البشر، ناهيك عن المؤسسات التى هى أشبه بالبشر.
دائرة الإحباط هواؤها مسموم، أنتنه أنفاس المنتفعين ببقاء الحال دون حراك، سرعان ما يعبث بخيالك فيقضى على نسمات الأمل، وأحلام التقدم والتميز والتطوير.
***
للخروج من دائرة الإحباط عليك أولا بالصبر ومكافحة اليأس بأهداف قصيرة قابلة للتحقيق رغم أنوف المحبطين. ثم ابدأ فى إعادة قراءة الأوضاع بعيون من خارج المؤسسة، ويا حبذا لو كانت من خارج المنظومة بأسرها. اصغ كما لم تفعل من قبل، استمع إلى كل الآراء والأفكار، واجمع البيانات والمعلومات فى أنساق تسمح لك باستغلالها والحد من التشويش المصاحب لها. اتخذ القرارات التى تحقق الأهداف القريبة بحسم ودون تردد، لا تخيفك دعاوى العبث باستقرار المؤسسة الشائخة، فلا خير فى استقرار فى القاع، ولا خوف على من توقف قلبه من عشرات الصدمات الكهربائية، علها تبعث فيه الحياة من جديد. كن على يقين من أن المفسد الذى تعمد الفساد وانتفع به لن يعينك أبدا على إصلاحه، لكنه مصدر مهم للمعلومات ومفتاح لكثير من الأبواب المغلقة، فقد أغلقها بيديه وخبأ خلفها الكثير من الأسرار والعملاء والمشروعات والعاملين والمستثمرين الذين ربما تحتاج إليهم لتطوير المؤسسة، هم فقط فى هذا المكان لوقت طويل لأن صاحبنا احتجزهم عندما لم يجن منهم منفعة خاصة.
تذكر أنك مازلت فى دائرة الإحباط فلا تنتظر أن تفتح لك الأبواب جملة بقليل عناء، هى فقط أهدافك الصغيرة تبعث فيك الأمل. تبدد بعض غيوم الإحباط ليعبرها خيط رفيع من النور. تستنزل عليك رحمات من البارئ، يصيغها صيحات من التشجيع يأتيك صداها فى الغالب من خارج الدائرة، وفيما ندر من خلف الأبواب المغلقة.
فى دائرة الإحباط عليك أن تستحضر التاريخ، وأنك لست بدعا من الناس، وأن كل شىء ممكن، وأن بلادا بأسرها مزقتها حروب عالمية، ودمرتها قنابل ذرية سرعان ما عادت وتصدرت المشهد الاقتصادى فى زمن قياسى. استغل كل اللطائف التى تأتيك لتخرجك من السجن النفسى الذى تفرضه عليك دائرة الإحباط. قد تكون اللطيفة آية قرآنية، أو حديثا شريفا، أو عبرة من أثر، أو حتى فيلما سينمائيا... المهم أن تحسن استغلال تلك اللطائف على نحو يسمح لك بالاستمرار فى طريقك رغم الصعاب وأسباب الفشل المتعددة.
كلما زاد الشغف وارتفع سقف الطموح والأمل فى التحسن، كلما كان الإحباط كبيرا ومؤثرا إذا ما تعثرت وضقت ذرعا بدائرتك، فلا تخفض من سقف التوقعات ولكن اشحنه بوقود أكثر من الطاقة والشغف واللطائف. كثيرا ما توقفت أمام بيت الشعر الشهير للإمام الشافعى:
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج وسألت نفسى من أين يأتى الفرج إذن لو أن حلقات الضيق والإحباط قد استحكمت؟! صحيح أن الفرج من الله تعالى، وأن الله يجعل بعد عسر يسرا، لكنه سبحانه جعل لكل شىء سببا.. فما سبب الخروج من دائرة الضيق المحكمة، بل ما هى صورة الفرج؟! البدائل التى يقترحها «ألكس فوروبيف» (صاحب المؤلفات المتخصصة فى إدارة التغيير ومؤسس إحدى الشركات العاملة فى ذات المجال) لا تخرج عن ثلاثة: الحظ أو الموت أو الاختيار. الموت والحظ لا دخل لنا فيهما، لكن وحده الاختيار هو السبيل للخروج المستحق من دائرة الإحباط، فلو أنك اخترت أن تخرج من الإحباط الذى تحيطك به المؤسسة التى تديرها، فلن يكون ذلك ممكنا إلا عبر التخطيط الجيد وإدارة المخاطر وإحكام الرقابة الداخلية. بالتأكيد يمكنك أن تختار الخروج منفردا من دائرة الإحباط المؤسسى بالبحث عن عمل بديل وربما موطن جديد للإقامة والعمل. لكن الاختيار الصعب والأوسع تأثيرا هو الذى تخرج به أنت ومؤسستك من تلك الدائرة إلى أفق جديد ينطلق به منحنى التعلم فى مسار لا يعرف الشكل الدائرى.
***
يبقى للخروج من غياهب الإحباط أن تتحلى باليقين بأن «كل متوقع آت» (كما قال الإمام على بن أبى طالب كرم الله وجهه) وما سطرته «روندا بايرن» بعده بقرون فى كتابها الأشهر «السر» The Secret عن فكرة قانون الانجذاب law of attraction والذى تقول «روندا» إنه قانون طبيعى محايد مثل قانون الجاذبية الأرضية، ومداره أن أفكارك تحدد التردد الخاص بك، وتنبئك مشاعرك بطبيعة التردد الذى تكون عليه، فعندما تصبح مشاعرك أو أفكارك سلبية، فإنك تكون على تردد يجذب أمورا سيئة، وعندما تشعر بشعور طيب، فإنك تجذب أمورا طيبة. ولا تنس أن تدمر دائرة الإحباط بإفشال مخططات متعهدى الطاقة السلبية ومصممى دوائر الإحباط، بإصرارك على تحقيق الأهداف المخططة بعناية دون إمهال.