عندما تشتد الأزمة قليل من الناس من يتطلع إلى مستقبل العالم ما بعد انقضائها، ونخبة من هذا القليل فقط تستطيع أن تستشرف بوضوح قسمات هذا المستقبل. فى معترك إدارة الأزمة معظمنا يسعى إلى تقليل حجم الضرر، والمحافظة قدر المستطاع على نمط الحياة والمكاسب المعتادة للأفراد والمؤسسات. وحدها مخازن الأفكار، ومنابر الإعلام التخصصى الواعى تحشد الأفكار والرؤى للاستعداد إلى ما بعد مرور الأزمة. فى لقاء تفاعلى حديث على شبكة الإنترنت استعرض الاقتصادى الشهير الدكتور محمد العريان شكل العالم ما بعد أزمة وباء «كورونا» وبعكس كثير من المتفائلين الذين يعانون من متلازمة الإنكار، فقد أعطى تصورا واقعيا للاقتصاد العالمى ما بعد الصدمة، لكنه أبدع بالتأكيد فى تشخيص الواقع الأمريكى وأسواق المال والنقد الأمريكية التى يمتلك فيها سجلا حافلا من الإنجازات العملية والمعارف المتراكمة.
مما لفت انتباهى فى الحوار الذى امتد إلى ما يزيد عن الساعة، وسمح بمداخلات وأسئلة المتابعين فضلا عن أسئلة المحاور البارع، هو مفتتح الحوار الذى وضع خلاله الدكتور العريان تصورا عاما لحجم الضرر الاقتصادى الذى تصنعه البنوك المركزية منذ عام ٢٠٠٨ بتدخلها فى الأزمات المالية بغرض واحد هو الانتصار فى «الحرب» لكنها لا تجيد أبدا التعايش والاستمرار فى زمن السلام. فمنذ عام ٢٠٠٨ تعامل الفيدرالى الأمريكى وبنوك مركزية كثيرة حول العالم مع أزمة الرهن العقارى عبر ضخ ما يعادل مئات المليارات من الدولارات فى الأسواق من خلال العديد من أدوات التسهيل الكمى والكيفى.. وكذلك أفرطت الحكومات فى تقديم حزم الإنقاذ لأنشطة اقتصادية بعينها ولمؤسسات مالية كبرى، مما عمّق من حجم التفاوت وانعدام العدالة، ليس فقط فى توزيع الثروات، ولكن فى فرص وصول الشركات الصغيرة والمتوسطة إلى تلك الحزم والمحفزات التى تمتلك المؤسسات والشركات الكبرى مزايا نسبية فى الوصول إليها.. هذا النوع من التشوهات التى خلقها التدخل المعتاد لإنقاذ الأطراف المتعاملة فى الأسواق (خاصة أسواق المال وليس الاقتصاد الحقيقى ومعاقل الإنتاج) أصبحت البنوك المركزية متورطة فى تغذيته باستمرار حتى بعد انقضاء الأزمة، لأنها (وفقا للعريان) لم تضع خطة للنجاة فى زمن السلام، فقد انحصر تركيزها على الفوز بالحرب.
***
وإذا كانت الأنظمة المصرفية قد نجحت فى اجتياز العديد من الأزمات المالية، فإنها قد تركت الأسواق فى حالة من التشوّه لا يمكن التخلص منها بسهولة. فالبنك الفيدرالى الأمريكى الذى بمقدوره اتخاذ قرارات التدخل والإنقاذ بمرونة أكبر من الحكومات، حيث لا يضطر إلى انتظار موافقة الغرف التشريعية، صنع خطرا أخلاقيا مستداما فى سوق المال، وانفصالا تاما (فى وقت الأزمات) بين الاقتصاد الحقيقى ومؤشرات البورصة التى يروق للبعض أن يرى تحولها إلى اللون الأخضر بمثابة تأكيد على رؤية مستقبلية إيجابية للاقتصاد، بينما يساعد التدخل الدائم والمضمون من الفيدرالى لدعم مؤشراتها على تحقق التوقعات المفرطة فى التفاؤل والابتهاج فى كل مرة! لا لأنها توقعات رشيدة بالضرورة ولكن كون الفيدرالى يحققها بالتدخل فى آليات السوق وإن لم تكن لتتحقق.
النتيجة هى أسواق خضراء يطرب لها أقل من 1% من الأمريكيين من حملة الأسهم فى وول ستريت، على هامش إغلاق شبه تام لأنشطة الاقتصاد الإنتاجى، وإفلاسات بالجملة فى قائمة تجار التجزئة، وأزمة بطالة طاحنة أجهزت على ما تم خلقه من فرص عمل خلال عشر سنوات كاملة! وركود يتهدد اقتصادات العالم بمتوسط لا يقل عن 3% (مرشح للزيادة مع الصدمة البترولية الڤيروسية الأخيرة) تقوده بالتأكيد اقتصادات أوروبا والولايات المتحدة فى الأساس، وانهيار مؤشر المشتريات PMI، وانهيار أسعار النفط من الخام الأمريكى وخام برنت بدرجات متفاوتة، ونكوص تشهده إنجازات العولمة المحققة على مدى عقود، من أبرز شواهده مزيد من الانكفاء حول الذات والدعوات الانعزالية الشعوبية هنا وهناك...مع كل ذلك، مازال نفر من مضاربى أسواق المال يتهمون الاقتصاديين بالتشاؤم غير المبرر!
***
أولويات المرحلة الحالية فى كل دول العالم، وخاصة الدول النامية والأقل نموا، والتى تعرضت لنوعين من الضربات خلال الأزمة الحالية (أحدها ڤيروسية والآخر عبر موجات عدوى مالية واقتصادية عنيفة من الدول المتقدمة) يجب أن تنصب على إنقاذ النشاط الاقتصادى الإنتاجى المحلى القائم على موارد الدولة المحلية، وإعادة تخصيص الموارد بصورة تحقق الكفاءة والاستدامة فى واقع عالمى جديد لا يقيم توازنا بين المصالح الوطنية والمسئولية تجاه المجتمع الدولى. وإذا كانت مصر تتوقع نموا فى اقتصادها خلال تلك المرحلة الحرجة التى يمر بها العالم، ويقرّها فى توقعاتها مؤسسات مالية وائتمانية معتبرة، فإن هذا النمو المحفّز بالاستهلاك لن تتحقق استدامته لما بعد العام إذا استمر اضطراب حركة التجارة الدولية، وإذا لم تتحرك عجلة النشاط «الإنتاجى» فى مصر على نحو أكثر ثباتا واستقلالا من أى وقت مضى. هنا تصبح انهيارات أسعار عقود النفط فرصة للتغلب على عقبة ذات طابع خاص باقتصادنا خلال المرحلة السابقة لبرنامج الإصلاح الاقتصادى، والتى كان مدارها ارتفاع تكلفة الطاقة فى الصناعة بشكل كبير، ناهيك عن ارتفاع تكلفتها فى النشاط الاقتصادى بصفة عامة.
والحديث عن عقود المشتقات السلعية وخاصة النفطية كان لنا معه فى هذه المساحة مقالات وجولات سابقة، استجابت لها الدولة (بالمصادفة أو بالعناية لا فرق) واشترت عددا من الخيارات التى مكّنت مصر من التعامل بصورة أكثر فاعلية مع تقلبات أسعار البترول فى البورصات. وقد حان الوقت للاستفادة بالمعرفة المتراكمة عالميا فى هذا المجال، لتحقيق أكبر قدر من التحوّط ضد التقلبات المتوقعة مستقبلا فى أسعار النفط ومشتقاته، مع النهوض بالصناعة الوطنية بفترة سماح طبيعية وفّرتها ظروف الركود العالمى، وحفّزتها تراجعات النفط ومشتقاته بما يضمن إنتاجا رخيصا للكهرباء، وتشغيلا اقتصاديا للأفران الصناعية كثيفة استهلاك الطاقة بأنواعها.