يتكرّر السؤال والرد كل يوم عدا يوم الجمعة، بالضبط عند الساعة الخامسة: وصلتى يا أم محمد؟ وصلت يا أبو صابر.. كفاية زعيق!
قبل ربع الساعة، يكون قد سبقها إلى مدخل العمارة الجانبى، بوابة حديدية تجاور محل الحلويات، ممر طويل ينتهى بمرآة تعكس صورته، عجوز تجاوز السبعين، يقترب من صورة وجهه متأمّلًا لحيته البيضاء الخفيفة التى يشذبها كل يوم، لا يعجبه قوامه النحيف، ولا الصلعة المحاطة بنُتف الثلج، والتى تنتهى بسماعة صغيرة معلّقة فى أذنه. يتأبط جرائده المفتوحة على صفحة الحوادث، يداعب البواب النوبى، يسميه «عبده نيجاتيف»، يتأفف البواب ويبرطم بكلمات غير مفهومة.
ينحرف أبو صابر إلى اليسار صاعدًا إلى الطابق الأول فى البناية الضخمة، يهندم القميص والبنطلون، ينظر إلى باب العيادة المجاورة المغلق، يفتح باب عيادته، يضىء النور، ويتفقّد كروت المرضى المرتّبة.
قبل خمس دقائق، تدخل أم محمد، عرجٌ خفيف يميل بها يمينًا ويسارًا، بيضاء وقصيرة، عيناها صغيرتان، إسدال طويل يضع جسدها بين قوسين، فى يدها اليمنى شنطة سوداء، ويدها اليسرى لا تتوقف عن تنفيض ما علق بثوبها الطويل الغامق من الأتوبيس. تتابعها مرآة الحائط بلا مبالاة كأنها لم تنعكس عليها. حفيف الحذاء يؤرق البواب، يدير وجهه لاعنًا ابنه جعفر، تهمس فى سرها: «اتمسّى واتهدّ بقى»..
تتسلل لتفتح عيادة طبيب أمراض القلب، يزعجها النور، قبل أن تفتح التليفزيون، يأتيها صوت أبو صابر صارخًا: «وصلتى يا أم محمد؟».لا يهون عليه أنه أزعجها، بعد دقائق تجده أمامها ومعه الجريدة على صفحة الحوادث، يسألها بصوت عالٍ عما إذا كانت قرأت حكاية الخمسة الذين سقطوا فى بالوعة المجارى وهم يحاولون إنقاذ قريبهم. عيناها الملونتان وراء النظارة معلقتان بأحداث المسلسل الهندى المدبلج، تأخذ يدها اليسرى الجريدة، تهتف لكى يسمعها: «حاقراها.. بس أشرب الشاى.. أعملّك كوباية؟».
هنا فقط يتذكّر أنه عزمها على حادثة، ونسى أن يعزمها على الشاى، مثل تلميذ يعتذر عن عدم عمل الواجب ويعد بإنجازه، يقول أبو صابر: «والله عامل حسابك.. حاجيبلك كوبايتك».
لم يتذكرها فى دور الشاى الافتتاحى هذه المرة، شغلته مباراة كرة معادة بين ألمانيا وهولندا، فتح التليفزيون الصغير، وترك الشاى يغلى، يصب كوبًا واحدًا بالعافية، يعود إلى عيادة القلب. لم تقرأ أم محمد حرفًا، مشغولة هى بالرد على تليفونات المرضى، ترد بعبارة لا تتغير: «أيوه جاى.. ع الساعة سبعة.. تمانية ونص كده.. ما فيش حجز بالتليفون». يعدّل أبو صابر سماعة الأذن ليسمع، ووشيشٌ مفاجئ ينغّص أصداء صوتها، يضع كوب الشاى صامتًا، ويستدير ليصنع كوبًا آخر.
قبل عشر سنوات، عزمته على أول كوب شاى، كانت قد تجاوزت الخمسين، استلمت عملها منذ يومين فقط، فى الصباح موظفة فى الضرائب، فى المساء تمورجية. اهتز المبنى على صوت صرخته التى تعودت عليها فيما بعد: «جوووووووووون»، قفزت من مقعدها، عندما دخلت عيادة طبيب الأسنان المجاورة، كان أبو صابر قد بدأ فى التصفيق والرقص منتشيًا.
وقفت مبهوتة، بهدلته، طيّب خاطرها، أشار إلى سماعته، قال إنه «يدوب بيسمع صوته»، يعتقد أنه يهمس بينما هو يصرخ. عزمته على واحد شاى فى عيادتها، ترك لها العدد الجديد من جريدة «أخبار الحوادث»، «عشان تمزمزى فيها براحتك فى البيت.. هاتيها معاكى بكرة».
لم تستطع أن تكمل حادثة واحدة، قالت له فى اليوم التالى إنها التهمت كل الجرائم. بدأ فى اختبارها: «طيب إيه رأيك فى الدكتور اللى كيّس الراجل بعد ما قطّعه حتت.. مجرم ابن الإيه». اعتذرت بانشغالها فى استقبال المرضى. فى نهاية اليوم، رد عزومة الشاى، وأثنى على ذوقها فى متابعة المسلسلات العربية، «بس الكورة أجمل». حكى عن زواج صابر وإخوته، عن مهنته قبل المعاش كعرضحالجى أمام قسم الدقى، وعن شقة شبرا التى استأجرها والده بثلاثة جنيهات فورثها عنه. قالت إنها لم تنتظر المعاش، محمد وإخوته يبتلعون المرتب، والبنات مطلوبة للجواز.
البطلة اسمها «كارينا».. ومش عايزة تتجوز الراجل اللى زى الباب ده.
استغرب أحد الزبائن ما يحدث فى المسلسل المدبلج، ردّت أم محمد غيبة بطلتها الهندية، حكت قصتها للزبون دون أن ترفع رأسها عن الكشكول، سجّلت بيانات مريض جديد، استلمت النقود، تذكرت أن جارها سيعود آخر اليوم ليسألها عن الحادثة. قرأت سطرين هنا، وسطرين هناك، طوت الصحيفة مع دخول الطبيب.
بعد ثلاث ساعات ونصف، كانت العيادتان بدون مريض واحد، غادر الطبيبان، وضعت أم محمد الكشكول فى الدرج، أخرجت خيوط التريكو لتستكمل فى البيت سترة تصنعها لحفيدتها، لم تضرب إبرة منذ أسبوع، وضعتها فى الشنطة السوداء بجوار النظارة، أغلقت التليفزيون، ضبطت الإسدال، أغلقت الأنوار، واتجهت إلى الباب، وفى يدها الجريدة.. خلّصت يا أبو صابر؟ صرخت عندما اقتربت من عيادته، رد عليها: «بتزعقى ليه؟!!.. خلّصت». يستكمل طقوس الإغلاق اليومية، تسبقه قبل أن يسأل: «حادثة صعبة أوى.. ربنا يرحمهم ويرحمنا». يطمئن على الكروت، يعدّل هندامه المتواضع، ينزلان معًا.
عند البسطة الأخيرة يستقبلهما البواب النوبى، يمط شفتيه، ويستدير لاعنًا جعفر واليوم الذى ولد فيه، يهمس أبو صابر: «لو اسمى اتنشر فى حادثة، يبقى اعرفى إنى قتلت جعفر وأبوه». تكرّر نفس تعليقها اليومى: «مش عايز يتمسّى ويتهدّ أبدًا».
تنعكس صورتهما فى المرآة، ظهران يتمايلان، يدان تتساندان، يودعها أمام محل الحلويات، تسلمه الجريدة، يأخذ طريقه إلى اليمين، وتغيب هى بين العابرين.
لمّا نظر إلى الصحيفة، اكتشف أن قعر كوب الشاى قد ترك أثره على خبر الحادثة.