أشارت ابنتي إلى شمعة مضيئة تستقّر فوق شمعدان أنيق في أحد محلات الأثاث وقالت "جديدة دي"، لم أفهم ما هو الجديد بالضبط الذي كانت تقصده ابنتي لكن أدهشني أنني شعرت من أول نظرة بفقدان الكيمياء بيني وبين الشمعة. كانت الشعلة أكثر توهجًا من المعتاد، ولولا أننا كنّا في عزّ النهار لبدا انعكاس أحمرها الملتهب على التماثيل النحاسية والڤازات الكريستال والمناضد الخشبية مرعبًا بعض الشيء، أو هكذا بدا لي.
مع كل نسمة من نسمات الخريف كانت تدخل إلى المحل بصحبة هذا الزبون أو ذاك، تهتّز الشعلة وتتراقص ذات اليمين وذات الشمال فترتعش ظلالها المتأججة فوق الأشياء، لكنها أبدًا لا تنطفئ.. فقط تتمايل. مممم هذا إذن هو الجديد الذي كانت تقصده ابنتي، إنها شمعة لا توقد لا بأعواد الثقاب ولا بالولاعة، لكنها تعمل ببطارية صغيرة جدًا داخلها تُقاوِم بها احتمالات الإطفاء. تبًا لهذا التطور التكنولوجي الذي لا حدود له، إنه مصمّم على تجريدنا من متعة الخيال بكل الطرق الممكنة. حلّت الرسائل الإلكترونية القصيرة محّل الخطابات البريدية ففقدنا لذّة الترقّب ونحن نفّض الأظرف لنلتهم السطور ونتشمّم عبير الغائبين، انتشرَت غابة من الكاميرات حول البيوت ففقدَت العين السحرية غموضها المحبب ونحن نطّل منها على الأغراب فترينا منهم ما ترينا وتحجب عنّا ما تحجب، حتى هذا الاختراع (GPS) الذي نعتّز به كثيرًا والذي يقود عرباتنا بسهولة إلى مقصدها، لو دققنا النظر سنجد أننا خسرنا معه متعة التسكع والتوهان بين الشوارع، والآن جاء الدور على الشموع، فهل انتهى للأبد عصر الخيال؟
• • •
مثلي مثل كثيرين غيري صاحَبَت الشموع مسيرة حياتي منذ البداية وحتى اليوم. لا أذكر بالتأكيد أول ولا ثاني ولا ثالث شمعة فوق تورتة عيد ميلادي، لكني ربما أذكر الزيادات المتتالية في عدد شموع عمري وأنا أجمع هواء الحب والدفء والفرح المحيط بي لأنفخه في شموعي المضيئة فينطفئ بعضها ويراوغني البعض الآخر. هذه الشموع المطفأة بجهدي وبمساعدة الآخرين هي أنا، أنتقل معها من عام لعام ومن مرحلة لأخرى على وقع أنغام الأغنية الشهيرة من أوبريت بابا شارو: يالا حالًا بالًا حيّوا أبو الفصاد. تخيّلوا معي لو لم تنطفئ هذه الشموع وظلت متقّدة للأبد فهل كنّا سنجد لضوئها أي بهجة بل هل كنّا سنجد لكل طقوس عيد الميلاد أي معنى؟ فيما بعد انتقلَت هذه الطقوس إلى الأولاد ثم إلى الأحفاد، لكن بتطوير أكبر فصرنا نجد شموعًا على هيئة حروف هجائية وأشكال لوجوه محببة من عالَم ديزني وفاكهة وأشياء أخرى كثيرة، وحتى عندما فرَضَت علينا كورونا ألَا ننفخ شموعنا منعًا للعدوى كنّا نصمّم على إطفائها مرة بالمروحة ومرة أخرى بمجفّف الشعر، الأداة ليست مهمة المهم هو العبور الآمن من سنة إلى سنة.
• • •
في مرحلة أخرى اتخذّت الشمعة مساحة أكبر في حياتي ولعبت دورًا مصيريًا سأحكي عنه حالًا. عندما رُزقت بابنتي كنت قد اخترتُ لها اسم شذى، كان هذا الاسم يسحرني فله رائحة زكية ومعنى لطيف وهو غير منتشر ثم أنه كان لزميلة رقيقة لي في المرحلة الابتدائية كنت ولا زلت أحبها، لكني قوبلت بمعارضة شديدة تقريبًا من كل أفراد الأسرة. ومن أطرف دواعي الرفض ما قالته لي إحدى قريباتي بغضب حقيقي عن أن اسم شذى غير قابل للدلع وسألتني وكأنها أحرجتني "تقدري تقوليلي شذى دي تتدلّع إزاي؟" أما الباقون فإنهم كانوا يفضّلون ذلك الاسم الشائع الذي ميّز عددًا لا بأس به من البنات المولودات في حقبة الثمانينيات، اسم سارة. تمسّكت فعارضوا، حاولت إقناعهم فلم أنجح، وفي الأخير طَرَحَت أمي فكرة لم تخطر لي على بال وقالت: تعالوا نضئ شمعتين إحداهما باسم سارة والأخرى باسم شذى، والشمعة التي تظل مضاءة لفترة أطول تكسب ونطلق اسمها على مولودتنا الجديدة. هل يا تُرَى توجد أي جذور لهذه الفكرة في عاداتنا المصرية؟ الأرجح نعم لكن فاتني أن أدقّق هذه المعلومة مع أمي. على أي حال قبلت مضطرة المشاركة في لعبة الشمعتين، وأقول مضطرة لأنني لست من المحظوظين في ألعاب الرهان، وأكاد لا أذكر أنني راهنت على شيء وكنتُ الرابحة، لكن هذا ما حدث. أوقدنا الشمعتين ورحنا ننتظر، وصحّ ما توقعّته إذ سرعان ما انطفأت شمعة شذى، وهكذا أعطتني الشمعة الأخرى اسم ابنتي. وتخيّلوا معي جدوى هذه المسابقة العجيبة بين الشمعتين لو أننا كنّا نعيش عصر الشمعة التي لا تنطفئ.. بالطبع ما كانت هذه الفكرة لتُطرَح أصلًا.
• • •
أراني قفزت على مرحلة مهمة من حياتي لم أتطرق لها حتى الآن، تلك المرحلة التي كانت فيها أضواء الشموع الخافتة تُعّد جزءًا مكمًلا لسنوات الخطوبة الساحرة وبدايات الزواج الرومانسية، أصلًا كان من بين ديكورات منزل الزوجية شمعدان نحاسي اشتريته من أحد محلات الديكور في شارع سليمان باشا، وكنت أحبّه جدًا وأرتبط به عاطفيًا وأنقله معي من بيت لآخر حتى ضاع مني في ظروف غير معروفة. لم تكن الشموع الثلاث تستقّر فوق هذا الشمعدان بسهولة، وكان الأمر يأخذ مني وقتًا معتبرًا لأضبط وضعها حتى إذا ما أدار زوجي مفتاحه في الباب أشعَلتها بسرعة لتضيء له المكان. وفيما بعد صرتُ أضرب مثلًا بالشموع التي تسيح فوق أذرع الشمعدان كلما أردت التدليل على عظمة الخدمات المنزلية التي أقوم بها لأولادي وزوجي، فأشير إلى الشموع وهي تذوب وتقصر شيئًا فشيئًا إلى أن تتلاشى وأقول لهم: أنظروا جيدًا إلى هذه الشمعة إنني مثلها أحترق طول اليوم من أجلكم لكنكم أبدًا لا تقدّرون، وأظن أن هذه الجملة الشائعة هي من الأيقونات التي تستخدمها كل الأمهات المصريات لتثبيت مكانتهن الاجتماعية داخل الأسرة. وبالتالي فلو اختفت الشموع التي تحترق وحلّت محلها شموع تضئ إلى الأبد فكيف كنّا سنتصرّف نحن الأمهات وكيف كانت أُسرنا ستنتبه إلى قيمة تضحياتنا من أجلها؟
• • •
جذَبتُ ابنتي إلى خارج المحل والمسكينة لا تفهم بالضبط ما هو سبب نفوري من الشمعة إياها بل وحرصي على عدم إخفاء هذا النفور عنها. تأبطتُ ذراعها كما نفعل دائمًا ورحتُ أعيد عليها للمرة الألف حكاية اسمها مع الشمعة، أما ذكرياتي الأخرى مع الشموع فقد كانت جديدة عليها، وكان طريقنا طويلًا.