صراع التكنولوجيا ومستقبل قيادة العالم - محمد المنشاوي - بوابة الشروق
الجمعة 13 ديسمبر 2024 6:00 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صراع التكنولوجيا ومستقبل قيادة العالم

نشر فى : الخميس 28 يناير 2021 - 7:15 م | آخر تحديث : الخميس 28 يناير 2021 - 7:15 م

يدفع التقدم التكنولوجى السريع لتغيير الخارطة الجيوستراتيجية للعالم بصورة سريعة لم تتضح طبيعتها بعد، لكن من المؤكد أن علاقة التكنولوجيا والسياسة والتفاعل والتأثير المتبادل بينهما يمثل أحد أهم محددات هذا العالم الجديد.
ويبشر العالم الجديد بتوازناته الجيوستراتيجية المتسارعة بتحولات اجتماعية وسياسية جذرية تغير صورة العالم وعلاقات التنافس فيه بطرق جديدة غير تقليدية وغير مفهومة، مع احتمال حدوث عواقب لا رجعة فيها على شكل التنظيم الدولى وعلى شرعية وطبيعة الدول القومية فى الحكم.
ويتطور منذ فترة ليست طويلة مصطلح «تكنو بوليتيكس» (Techno Politics) ليشير إلى علم أو منهج أو موضوع يتناول الشأنين السياسى والتكنولوجى فى صورته المتغيرة، من خلال الصراع بين القوى الكبرى من جانب، وبين صراع التطبيقات التكنولوجية وعلاقتها بحياة البشر وأسواق المال من جانب آخر.
***
ويتولى عمالقة التكنولوجيا أدوارا جيوسياسية قوية ومستقلة. فى حين أن خلفية الأمن القومى عميقة فى عروق بعض منصات التكنولوجيا فى وادى السليكون، وينظر إلى الشركات الصينية على أنها مرتبطة ارتباطا وثيقا بالحكومة، ومع ذلك، فإن معظم عمالقة التكنولوجيا يفضلون الظهور بمظهر الحياد السياسى والاستقلال. ولا يمنع ذلك أن يلتقى تيم كوك، الرئيس التنفيذى لشركة آبل، مع الرئيس الصينى شى جين بينج بمعدلات تفوق لقاء الرئيس الصينى مع رؤساء وقادة أى دول فى العالم.
وأصبحت هذه الشركات جهة سياسية فاعلة عابرة للحدود، وتتفاوض بقوة وبطرق مباشرة مع دول العالم وخلف أبواب مغلقة. ولا نعرف على وجه الدقة حدود تعامل أو تنسيق كبرى شركات التكنولوجيا مع الجيوش والحكومات المحلية (الأمريكية فى الأغلب) أو الجهات المنافسة (الصين وغيرها).
***
فى الوقت ذاته تنتج وتطور هذه الشركات تكنولوجيا قد تصبح قاتلة بسهولة حال توجيهها فى هذا الاتجاه. وأصبحت الجيوش حول العالم تسعى للحصول والاستفادة من أحدث ما تتوصل إليه الشركات فى مجالات معالجة البيانات الضخمة، والأمن السيبرانى والروبوتات والتضليل وطرق المراقبة الإلكترونية، والذكاء الاصطناعى لخدمة مصالحها الاستراتيجية، وتحولت الكثير من مجالات التكنولوجيا لأدوات تستغلها وتوظفها أجهزة الاستخبارات حول العالم.
وأظهرت تجربتا خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى وفوز دونالد ترامب بانتخابات 2016 كيف يمكن أن يؤثر التلاعب بالبيانات على الأنظمة الديمقراطية، بحيث تؤدى دول أجنبية دورا فى نتيجة الانتخابات فى دول أخرى.
وتاريخيا كان هناك قدر من الفصل بين المجالين السياسى والتجارى والتكنولوجى، ولكل منهما مصدر شرعيته الخاص؛ شرعية السياسى جاءت من قبول المحكومين والالتزام بسيادة القانون والدستور، ونبعت شرعية التجارى من تحقيق المكاسب المالية، وتعظيم الربح، وتنبع شرعية التكنولوجى من الاختراع والإبداع والبحث عن الجديد.
***
والجديد أن التباعد بين السياسى والتكنولوجى يتلاشى كل يوم، فقد ظهرت شركات التكنولوجيا وتضخمت خلال العقدين الأخيرين بصورة لم يتخيلها أحد ولا مؤسسوها.
فى نهاية العام الجارى تصل قيمة شركة «آبل Apple» إلى تريليونى دولار، وشركة «أمازون (Amazon)» إلى 1.6 تريليون دولار، ومثلها وبالقيمة نفسها شركة «مايكروسوفت (Microsoft)»، ووصلت قيمة شركة «جوجل (Google) إلى 1.1 تريليون دولار فى حين وصلت قيمة «فيسبوك (Facebook) إلى 800 مليار دولار فقط، كما تتجاوز عائدات شركة جوجل السنوية دخل أكثر من نصف دول العالم. مع نهاية هذه العام يبلغ عدد مشتركى فيسبوك 2.7 مليار شخص حول العالم؛ أى أكثر من سكان أى دولة.
وسبب ذلك معضلات كبيرة لقادة ومديرى هذه الشركات تتخطى التحديات المتعلقة بالتكنولوجيا والابتكار والأرباح، فهم ليسوا بزعماء منتخبين، وقد يجهلون السياسة أو يمقتونها؛ إلا أنه لم يعد بوسعهم تجنبها.
ومن ثم أصبحت شركات التكنولوجيا الأمريكية وغير الأمريكية لاعبا كبيرا فى واشنطن، ووفقا لبيانات وزارة العدل الأمريكية، فقد أنفقت شركة فيسبوك على شركات اللوبى هذا العام 15 مليون دولار، وأنفقت أمازون 14 مليون دولار (أكثر مما تنفقه الكثير من الدول على لوبياتها). إضافة لذلك أسست كبرى شركات التكنولوجيا مكاتب لها فى واشنطن، ووظفت الكثير من المسئولين السابقين للعمل فى إدارة العلاقات الحكومية.
***
لقد اقتحمت التكنولوجيا حياة كل شخص على كوكب الأرض بصورة أو أخرى، وهى بطبيعتها تتحايل على الحدود الوطنية وتطالب باستجابة عالمية؛ حيث إن عالمنا اليوم يتسم بدرجة عالية من العولمة والدينامية، ففى كل دقيقة، تتدفق كميات هائلة من المال والبيانات والسلع والأشخاص والأفكار عبر الحدود، وهذه الاتجاهات لا تؤدى إلى زعزعة الاستقرار فحسب؛ بل إنها تخلق أيضا هياكل جديدة للسلطة والحكم.
التصورات القديمة حول رؤية النظام للعالم سواء تلك التى أطلقها هنرى كيسنجر أو صمويل هنتجتون لم تعد صالحة لعالم اليوم. والتصورات الغاضبة من اليسار كما يعبر عنها فكر نعوم تشومسكى، أو من اليمين كما عبر عنها فكر ستيف بانون، لم تعد تستجيب لتحديات العصر. النظام العالمى القديم يترنح أمام نظام عالمى جديد لا تحكمه إلا سرعة الابتكار التكنولوجى والتواصل، وربما السيطرة والإخضاع؛ لكن فى صورة مبتكرة يتم الترحيب بها طوعا من مليارات البشر حول العالم.
ويؤدى كل ما سبق لزيادة الأسئلة حول نتائج تعامل الحكومات مع شركات التكنولوجيا والآثار المترتبة على حياة البشر فى عالم ما بعد كوفيد ــ 19، وأسئلة تتعلق بحدود وقيود التطورات التكنولوجية، ومستقبل الدول القومية والحريات ومنظومة الحكم، وكيف يمكن ضبط ممارسات شركات التكنولوجيا الكبرى من خلال قواعد التنظيم والقوانين الدولية؟

محمد المنشاوي كاتب صحفي متخصص في الشئون الأمريكية، يكتب من واشنطن - للتواصل مع الكاتب: mensh70@gmail.com
التعليقات