رحم الله مبارك وغفر له وتجاوز عن سيئاته.. مع خالص العزاء لأسرة الرئيس مبارك وتقديرا لجلال الموت وهيبته ومن باب ذكر محاسن موتانا وخاصة الأبطال والزعماء والوطنيين فأبدأ هذا المقال بذكر بعض حسنات الرئيس الأسبق مبارك فيما يلى:
لو لم تكن لمبارك حسنة سوى أنه جنّب مصر خلال ثلاثين عاما هى فترة حكمه الحروب والصراعات ولم يدخلها فى أى حرب تضرها أو تريق دماء شعبها، ولا يعرف أحد قيمة ذلك إلا إذا رأى كيف أضاع صدام حسين أقوى وأعظم دولة فى الشرق الأوسط وحوّلها إلى مستعمرة لإيران وأمريكا.
من أعظم حسنات الرئيس مبارك التى ينساها الناس أنه مكث ثلاثين عاما فى الخدمة العسكرية يخدم وطنه ودينه وحارب فى كل حروب مصر ضد إسرائيل 73,67,56 ويكفيه أنه كان قائدا للطيران فى أشرف معركة خاضتها مصر «نصر أكتوبر»، ولم يفرّط فى شبر واحد من تراب مصر، ولو أنه لقى الله بنصر أكتوبر لكفاه.
لو لم يكن لمبارك من حسنة سوى تنحيه طواعية وبسهولة عن الحكم بعد أيام من ثورة 25 يناير حقنا لدماء شعبه وإيثارا لسلامته، ولن تعلم قيمة هذا الموقف إلا إذا قارنته بموقف بشار الأسد الذى ما زالت دماء شعبه تسيل حتى الآن وقسم وطنه واحتل من خمس دول، وكان يمكنه تجنب ذلك لو قلد مبارك، مبارك كان رجل سلام ووئام، رحمه الله رحمة واسعة.
رحم الله مبارك، فقد أعطى ومنح للإخوان إمبراطورية دعوية وتعليمية واقتصادية وحريات واسعة ورغم ذلك لم يعجبهم وثاروا عليه، وأعطى للسلفيين إمبراطورية كبيرة دعوية وتعليمية واقتصادية، ورغم ذلك لم يعجب أكثرهم، وأعطى للجماعة الإسلامية قبلة الحياة والحرية ورغم ذلك لم يعجب أكثرهم، الامتنان فى الشعوب قليل، وكذلك الجماعات، وعموما الامتنان فى الحياة كلها قليل.
من أعظم حسنات الرئيس مبارك قبوله لمبادرة منع العنف من الجماعة الإسلامية رغم أنها قصدته من قبل بالاغتيال تغليبا لحقن الدماء ونشر السلام وأدى ذلك إلى عشر سنوات كاملة من الأمن والسلام والتصالح والمحبة، وتحولت السجون فى آخر عهده إلى أفضل السجون فى المنطقة العربية كلها، بعد أن كانت أسوأها فى بداية عهده.
لو لم يكن لمبارك من حسنة سوى رفضه لضرب الخرطوم عاصمة السودان بالطيران ردا على محاولة اغتياله فى أديس أبابا والتى كان السودان ضالعا فيها، وقال «القاهرة مثل الخرطوم» وقد ذكر ذلك عدة مرات وزير خارجية السودان الأسبق الذى كان على علاقة ودية مع مبارك.
من حسنات مبارك: أنه لم يكن تصادميا كان يحكم بالتوازنات، لم يدخل مصر فى أى حروب أو صراعات إقليمية أو دولية، ودون تنازلات عن شبر من أرض مصر.
يخطئ من يحكم على شخص الرئيس مبارك بحكم واحد أو من خلال فترة واحدة فى حياته، فحياته كقائد عسكرى محنك ومتميز وشجاع وكبطل عظيم من أبطال أكتوبر تختلف عن حياته كنائب للرئيس سبع سنوات والتى لا يختلف عليها أحد، وحياته فى الحكم والتى يمكن تقسيمها أيضا لفترتين هامتين أحدهما تمثل العشرين عاما الأولى من حكمه والثانية تمثل العشر سنوات الأخيرة من حكمه.
تنقسم حياة مبارك إلى قسمين:
الأول كان فيها عسكريا منضبطا بعيدا عن السياسة، مهتما بعمله، مخلصا له يعطيه وقته وجهده ولا يعرف سواه، وقد توج هذه الفترة بقيادته لسلاح الجو المصرى فى أول وأهم نصر مصرى وعربى على إسرائيل فى حرب أكتوبر المجيدة، فهو أول من تولى قيادة الكلية الجوية وهو برتبة عقيد وكان له دور كبير فى تحديث وتطوير سلاح الجو المصرى وتدريب وتخريج عدد كبير من الطيارين المصريين ذوى الكفاءات المرموقة.
الجزء الأول من حكمه: وذلك قبل ظهور جمال مبارك وأتباعه، وفى هذه الفترة تمت المشروعات الكبرى التى أقامها مبارك ومنها المدن الجديدة، والمدن الصناعية الكبرى، ومترو الأنفاق وإعادة بناء البنية التحتية المهترئة وخاصة الكهرباء والصرف الصحى والمياه والطرق كان فيها مبارك نشيطا مجتهدا يهتم بدعم مكانته كرئيس جديد، فيحاول أن يتم المشروعات الكبرى التى بدأها السادات، والتى نسب أكثرها إليه، وساعده على ذلك مجموعة من المستشارين المخضرمين، أهمهم د.صوفى أبو طالب، ود.رفعت المحجوب، والمشير أبو غزالة، ود. عبدالعزيز حجازى، ود. فؤاد محيى الدين، والفريق كمال على، ود.أسامة الباز، ود.مصطفى الفقى، د.على الدين هلال، د.مفيد شهاب والمشير طنطاوى واللواء عمر سليمان فلما خلا الملعب من هؤلاء وقفز جمال وأتباعه ممن لا تهمهم إلا مصالحهم الشخصية ضاع الحكم ومعه مصر.
الجزء الثانى من حكمه: بعد ظهور جمال وأتباعه شلت حركة مبارك عن كل مناحى الدولة سوى الأمنية والعسكرية، وتغول جمال وأنصاره فى أركان الدولة، فتدهورت فيها الخدمات العامة، مثل الصحة والتعليم، وزادت فيها الرشوة والفساد والمحسوبية والتربح من الوظيفة الحكومية مع خصخصة الوظائف، ومحاولة توريث الحكم لمن لا يستحقه، وأصبح مبارك ضعيفا محصورا ينتظر فقط لحظة التوريث النهائى.
مبارك بدأ عهده مع نهضة كوريا الجنوبية، ولك أن تتخيل الآن مكانة كوريا الاقتصادية والصناعية بالنسبة لمصر، فكوريا تنتج أربعة أنواع جيدة من السيارات، مع أن مشروع صنع السيارة المصرية بدأ فى الستينيات.
من أهم سلبيات عهد مبارك بيعه كل مصانع القطاع العام بثمن بخس وتسريح كل العمالة، مما أدى إلى تدهور الصناعة المصرية فى مجالات كثيرة، أما التى تقدمت فيها فهى الصناعات الملوثة للبيئة مثل الأسمنت والسيراميك وغيرهما.
من سلبيات حكمه أيضا: تخلف التعليم فى عهد مبارك تخلفا كبيرا، رغم أن مبارك كان يمكنه إحداث طفرة فى التعليم فى فترة السلام مع إسرائيل، والتى قامت فيها إسرائيل بتطوير التعليم لديها حتى أن 9 من علمائها فازوا بجائزة نوبل فى الفيزياء والكيمياء، فى حين أن مصر لم يفز منها سوى د. زويل، ولولا عمله الأكاديمى فى أمريكا بنظامها العلمى والإدارى الجيد ما حصل على نوبل، فالبنية الأساسية للجامعات المصرية لا تؤهل لنوبل ولا لغيرها، فضلا على أن الفساد والروتين القاتل وتوريث المناصب فى الجامعات قتلها ووأد العلم والبحث الرصين فيها، فاختفت الجامعات المصرية من التصنيف العالمى لأفضل 500 جامعة، فى الوقت الذى كانت هناك دوما من خمس إلى عشر جامعات من إسرائيل تدخل فى هذا التصنيف.
حكم حسنى مبارك مصر بقانون الطوارئ لثلاثين عاما كاملة، رغم أنه وعد فى بداية عهده أن تكون الطوارئ لمدة عام واحد، لكنها امتدت لثلاثين، وكانت ستمتد إلى آخر يوم سيحكم فيه هو وأولاده.
صحيح أنه كان محقا فى فرضها فى بداية عهده بعد اغتيال السادات والأحداث الجسام التى واكبتها، لكن استمرارها وتمديدها بهذه الطريقة لم يكن له أى مبرر، وكان يمكنه رفعها بعد مبادرة منع العنف 2002 ليبدأ باكورة عهد جديد.
أضاع مبارك فرصة تاريخية لتحويل مصر إلى دولة ديمقراطية قوية فقد مكث فى الحكم ثلاثين عاما كانت كافية لإجراء هذا الانتقال تدريجيا، ليحذو حذو كوريا الجنوبية التى بدأت الديمقراطية مع بداية عهده أو اليابان، ولو فعل ذلك لخلده التاريخ فى إنشاء الديمقراطية المصرية كما خلده كقائد عسكرى متميز لسلاح الطيران فى نصر أكتوبر.
إن حياة حسنى مبارك ثرية وفيها من الدروس والعبر والملفات الهامة الكثير والكثير وأرجو أن يكتب عنه الكثير بحيادية وتجرد وأن توثق حياته بكافة أنواع التوثيق بمهنية وصدق لتتعلم الأجيال من حياته بما فيها من إيجابيات وسلبيات وانتصارات وانكسارات.
وفى الختام أقول: رغم اعتقال سبعة من أشقائى كرهائن ومعهم أبى، رحمه الله، مكثوا قرابة عام كامل، وتكرر ذلك مع بعضهم، ورغم القبض على قرابة أربعين من أقاربى خرج معظمهم سريعا، وذلك دون أدنى جريرة أو ذنب سوى قرابتهم لى، إلا أننى لم أكره مبارك وحاولت أن أكون منصفا وعادلا معه قدر الإمكان، وتأملت دوما فى حسناته ودعوت له فى حياته وخاصة بعد عزله، وأدعو له بعد مماته بالرحمة والمغفرة، فقد جبلنى الله على ألا أكره أحدا حتى لو اختلفت معه أو أساء إلى.
وما كتبته وما يكتبه غيرى عن مبارك أو غيره إنما هى أحكام الدنيا، أما الآخرة فهى ملك لله وحده وهو وحده سبحانه بيده مفاتيح الجنة والنار، ولهذا كان الإيمان باليوم الآخر من أساسيات وأصول الإيمان فى كل الأديان ولكن علينا أن نعلم أن رحمته وسعت غضبه، وأنه هو الرءوف الرحيم، رحم الله مبارك وجميع أمواتنا.