منذ أن خَلق الله آدم (عليه السلام) وحتى نزول الوحى على النبى (ﷺ)، فى القرن السادس الميلادى، لم يتخيل أحد على الإطلاق إمكانية صعود الإنسان من الأرض إلى السماء، فكانت حادثة «الإسراء والمعراج» هى «الأولى» فى تاريخ البشرية التى طرحت هذه الفكرة؛ وكانت الرحلة لها بعدان: الأول «أفقىّ» حيث أُلغِى فيها الزمان، فأسرى الله بنبيه (ﷺ) من البيت الحرام إلى بيت المقدس، فى لحظات من الليل؛ والثانى «رأسىّ» حيث أُلغى فيها «المكان» فعُرِج بمحمد (ﷺ) من الأرض إلى سبع سماوات عند «سدرة المنتهى»!
وفى القرن العاشر الميلادى، أى بعد حوالى أربعة قرون من بعثة النبى (ﷺ)، ظهر أول عمل أدبى تخيل صعود الإنسان من الأرض إلى السماء فى كتاب موسوم بـ«رسالة الغفران» لأبى العلاء المعرى ــ شاعر وفيلسوف عباسى (973 ــ1057م) ــ وتصف الرسالة أحوال الناس فى الجنة والنار، وقد أملاها المعرى ردا على رسالة بعثها له شيخ حلبى من أهل الأدب والرواية يُعرف بابن القارح (962ــ 1032)، وفيها يشكو أمره إليه، ويطلعه على أحوال بعض الأشخاص من الزنادقة والملاحدة، ثم يسأله فى ختامها أن يجيب عليها.
إلا أن أبا العلاء الفيلسوف لم يشأ أن يردّ على سائله إلا بعدما صدّر جوابه بقصة رائعة جرت حوادثها فى يوم الحشر، فى الجنة والجحيم، ووسمها برسالة الغفران لكثرة ما تردد فيها ذكر الغفران ومشتقاته، وحول المعرى رده إلى نص نثرى حوارى، جعل فيها ابن القارح بطلا لرحلة خيالية أدبية ممتعة حاور فيها الأدباء والشعراء واللغويين فى العالم الآخر، وأظهر المعرى قدرة فائقة على التخيل الجامح، ربما ساعده فى ذلك أنه كان ضريرًا، وقد أقر الجميع بأن مضمون الرد على ابن القارح استوحاه أبو العلاء من حدث «الإسراء والمعراج»، المنصوص عليه فى القرآن الكريم!
وبعد مرور أربعة قرون أخرى من وفاة أبى العلاء، ألَّف الأديب الإيطالى الشهير دانتى أليجييرى فى القرن الرابع عشر (ما بين 1307ــ1321م) ملحمته الشعرية الموسومة «الكوميديا (الملهاة)
الإلهية» Divina Commedia، وتعد هذه الملحمة العمل الرئيسى لدانتى، فضلًا عن أنها تعتبر أهم وأبرز الملحمات الشعرية فى الأدب الإيطالى، ويرى الكثير من النقاد العالميين بأنها من أفضل الأعمال الأدبية على المستوى العالمى.
ووصف دانتى فى قصيدته عالما خياليا فيه مكان للخير، ومكان آخر للشر، فالملحمة تحتوى على نظرة حول الآخرة بحسب الديانة المسيحية، فهى عبارة عن رحلة خيالية قام بها دانتى بنفسه فى الممالك الثلاث فى الآخرة: «الجحيم والمطهر والجنة»، استغرقت أسبوعًا: يومان فى الجحيم، وأربعة فى المطهر، ويوم فى الجنة، وكان دانتى ــ بطلها ــ تائها عند مفترق الطرق، وسط غابة مظلمة تغصّ بالذنوب!
ومن الثابت أن دانتى كان كثير الاطلاع على مختلف الثقافات، ومنها الثقافة الإسلامية التى كانت مزدهرة فى العصور الوسطى، هذا ما أكده المستشرق الأسبانى ميجيل بلاثيوس، فى كتاب له (1944م)، عن مصادر دانتى العربية للكوميديا الإلهية، ومنها مخطوطة أصلها عربى، ترجمت إلى الإسبانية، ثم إلى اللاتينية والفرنسية، ومضمونها: «معراج الرسول»؛ ثم أكد هذه الحقيقة مستشرقان آخران أحدهما إيطالى اسمه تشيرولى فى كتابه «المعراج»، والثانى أسبانى واسمه مونيوسفى فى كتابه «معراج محمد»، وقد أكد الباحثان فى كتابيهما على هذه الحقيقة، على الرغم من عدم اتصالهما ببعض!
فمن المؤكد أن دانتى تأثر بـ«رسالة الغفران» لأبى العلاء، كما لا بد من الإشارة إلى أن هناك تشابها واضحا بين «رسالة الغفران»، وبين «الكوميديا الإلهية»، فقد تأثر دانتى بأبى العلاء كثيرا فى الفكرة والروح والتقسيمات فى رحلتيهما، على الرغم من أن لكلا المبدعين رؤيته الخاصة، وذلك واضح من الفروقات الكثيرة بين عمليهما، فحراس الجحيم عند المعرى من الملائكة، وعند دانتى من الشياطين؛ وأشخاص الرواية عند المعرى: شعراء ورواة، وعند دانتى رجال دين وعُصاة، كما نجد أن الجنة عند أبى العلاء ثلاثة أقسام، وعند دانتى تسعة، ونجد أيضا أن وصف الفردوس موطن الإبداع عند أبى العلاء، بينما الإبداع عند دانتى تجلى فى وصف الجحيم!
• • •
لم تكن «رسالة الغفران» مشهورة فى عهد المعرى، كما أن معاصريه لم يُعيروها اهتماما كبيرا، لأنهم اعتبروها محاكاة لحادثة «الإسراء والمعراج»، فلم يروا فيها إبداعًا من المعرى، ولكن فى القرن العشرين، اشتهر المعرى بفضل دانتى، حيث اشتهرت «رسالة الغفران» لأنها اُعتبرت رافدًا رئيسيًا تغذت منه «الكوميديا الإلهية» لدانتى!
وفى العصر الحديث، كانت أول أحلام أو خيالات الأدباء والشعراء للصعود إلى القمر رويت فى القرن التاسع عشر، أى بعد ثلاثة عشر قرنا من نزول الإسلام، وكان أول من سجل هذ الحلم الأديب الفرنسى جيل فارن Jules Verne فى قصته التابعة للخيال العلمى «من الأرض إلى القمر» De la terre à la lune (1865)، ثم تبعه الأديب الإنجليزى جورج ميلياس فى قصته «أوائل الرجال على القمر» (1902)، فكان هذان الأديبان أول من تخيلا الصعود إلى القمر، وكانت أكبر أحلام البشرية حتى هذا الحين هو الصعود إلى القمر والكواكب وليس إلى المجرات الأخرى أو السماء!
ومما سبق نستطيع أن نؤكد أن «الإسراء والمعراج» هى «حقٌ»، وليست خيالًا ولا «كوميديا»، لأنها سابقة فى تاريخ البشرية، لم يفكر فيها أى بشر منذ بداية الخليقة، ومن الثابت يقينًا أن النبى محمد (ﷺ) كان «أُمّيًا» ولم يك شاعرًا ولا أديبًا، ولا يمكن أن تخطر بباله هذه الفكرة، ولكن لأن حدث «الإسراء والمعراج» فاق كل تخيلات البشر من لحظة حدوثه وحتى الحين، وأنه الأول والأخير (إحدى صفات الله سبحانه) فى تاريخ البشرية والكون مثل كل معجزات الأنبياء السابقين له، فهذا ما يثبت بلا أدنى شك أنها معجزة إلهية، فالمعجزات خوارق بطبيعتها، لا تخضع لعقل ولا لمنطق، ولا للزمان أو المكان، ولذا فإنه من المنطق التصديق بها، واعتبارها من المسلمات!
أما إنكارها فهو إنكار لقدرات الله الهائلة سبحانه وتعالى، وبالتالى يعتبر إنكارًا لكل الأديان، وخطورة إلغاء الأديان أنها تقضى على الجانب الروحى للإنسان، فيصبح مادة بلا روح، وهذا من أهم العناصر التى تدفع الإنسان للانتحار، فهى ظاهرة تُعانى منها شعوب اكتملت لديهم كل عناصر الحياة ومتعها، ولكنهم افتقدوا الإيمان بالله!
• • •
وللتأكيد على ما سبق، فإن كل المعجزات التى لازمت كل الأنبياء بلا استثناء (عليهم جميعًا الصلاة والسلام) كانت الأولى والأخيرة فى تاريخ البشرية ــ كما سبق القول ــ بدءًا من خلق آدم وحواء بنفخة من الله، ومرورًا بسفينة نوح وتوابعها فى صحراء جرداء، والنار التى أصبحت بردًا وسلامًا على إبراهيم، وتسخير الريح والجن لسليمان وفهمه للغة الحيوانات، وعصا موسى التى شق بها البحر، ومولد المسيح بن مريم (عليهما السلام) بدون أب، وتَكَلُّمه وهو فى المهد، وإحيائه للموتى؛ وعند اكتمال نضوج الإنسان العقلى، حول الله معجزاته المادية إلى معجزة عقلية تجلت فى كتابه الكريم الذى أنزله على النبى محمد (ﷺ)، فيه بينات وكلمات من الله، وفيه قال: «سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» (الإسراء: 1).
ومن الجانب اللغوى، فلعل من دلائل ثبوت «المعراج» ــ الذى سمح للنبى برؤية الجنة والنار وغير ذلك ــ استخدام الله «للمرة الأولى» تعبير«سدرة المنتهى» الذى كشف من خلاله عن شجرة نَبْق عظيمة فى الجنة، لم يُحدثنا عنها أحد من قبل، كما قال سبحانه: «وَلَقَد رَءَاهُ نَزلَةً أُخرَىٰ، عِندَ سِدرَةِ ٱلمُنتَهَىٰ، عِندَهَا جَنَّةُ ٱلمَأوَىٰٓ» (النجم: 13ــ15)، كما يخرج من ساق هذه الشجرة أنهار عظيمة، لما ذُكِر فى حديث نبوى رواه البخارى (رقم 2968): «وَرُفِعَت لى سِدْرَة المُنتَهى (...) فى أَصلها أَربعة أَنهار: نهرانِ باطِنَانِ ونهرانِ ظَاهِرانِ، فَسَأَلْتُ جِبْرِيلَ، فَقَالَ: أَما الباطِنَانِ فَفى الْجنَة وَأَما الظاهرانِ النيلُ والْفُرَات»!
وإذ ننتهز هذه الفرصة لنشكر كل من شكك بقدرات الله العظيمة، وبمعجزاته الخارقة فى كل الأديان، لأنهم ذكَّرونا بمعجزة «الإسراء والمعراج»، وبـ«سدرة المنتهى» التى ينبع منها نهر النيل العظيم الذى نتمنى ألا يلقى مصير نهر الفرات فى العراق، فمن الجدير بالذكر أن نؤكد على أن نهر النيل المقدس ليس أقل أهمية لمصر ــ دينيًا واستراتيجيًا وعسكريًا وأمانًا ومنبعًا للحياة وللاستقرار ــ من أهمية أوكرانيا بالنسبة لروسيا!
ونختم بقولنا للمشككين فى معتقداتنا، والمُنكرين لمعجزات الله فى كل الأديان باسم حرية التعبير، أن الحرية مسئولية، والمسئولية تشترط الأهلية المتمثلة فى العقل، وبلوغ الرشد، وكمال العلم فيما يخص ما يُفتى فيه، فمهنة الإعلامى التنوير وليس التشكيك، كما أن الحكمة تقول «ليس كل ما يُعرف يُقال»، لأن أغلب المستمعين أو المشاهدين أو القارئين هم من عوام الناس غير المتخصصين!
وفى هذه المناسبة الدينية العظيمة، نسأل الله الهداية لنا وللجميع، وأن ينصر مصر وأن يُجنب شعبها الفتن، وأن يُلهم قادتها الحكمة وأن يرزقنا الستر واليسر.