فى الأسبوع الماضى بيًّنا المأزق التاريخى والثقافى الذى يعيشه العقل الجمعى العربى، وبالتالى انعكاس ذلك على الأزمات السياسية والحضارية التى تعيشها الأمة العربية فى عصرها الحالى. وذكرنا بأن إصلاح الخلل ذاك سيحتاج إلى إصلاحين جذريين، بل وثورتين عميقتين، فى الحياتين السياسية والثقافية العربيتين.
دعنا نركز اليوم على بعض جوانب المدخل الثقافى لمواجهة وتصحيح نقاط الضعف فى فكر وممارسات العقل العربى الجمعى.
مشكلة الثقافة العربية أنها منذ منتصف القرن التاسع عشر تراوح فى مكانها مشدودة بين تمركزين: الأول هو الحفاظ على الهوية والذاتية العربية والثانى هو الانخراط فى الحداثة والعصرنة.
فالإبقاء على الذاتية العربية، وجزء كبير منه يتعلق بالاتفاق على هوية الأمة الجامعة، يتطلب موقفا واضحا من موضوع التراث العربى الإسلامى: ما الذى يجب أن يحلًل وينتقد ويتجاوز، وما الذى يجب أن يبقى ليضمن التواصل بين الماضى والحاضر، أى بين التراث والحداثة.
والانخراط فى الحداثة يتطلب، لكى تكون الحداثة ذاتية مستقلة، نقد حداثة الغرب المهيمنة وتجنب الذًوبان فيها. لكن ذلك يتطلب ذاتية عربية غير سلفية وغير متزمتة وغير منغلقة على نفسها.
والنتيجة هى عيش الأمة فى صراعات ثقافية عبثية بينما المنطق الموضوعى الهادئ يفرض السير فى الطريقين: طريق بناء الذات الحرة المبدعة وطريق الانفتاح على الحداثة غير الخائف والمتردد. والواقع أن هناك كتابات كثيرة ومحاولات عديدة تتفق مع هذا الرأى وتوكد ضرورة السير فى إعادة بناء الذات من خلال تعامل إبداعى مع التراث، وفى ولوج الحداثة من خلال تعامل إبداعى مع متطلباتها.
***
إذا اتفقنا على ذلك يبقى سؤال مفصلى يحتاج إلى جواب حاسم: من سيقوم بجعل نتائج ذلك الجهد الفكرى جزءا من واقع الحياة العربية اليومية؟ حتى الآن فشلت محاولات الحكومات العربية فى حل ذلك الإشكال، كما فشلت محاولات بعض قوى المجتمع المدنى العربى التى حاولت أن تقوم بهذه المهمة.
اليوم والحكومات العربية مشغولة بقضايا الإرهاب والوسائل الأمنية لمواجهة تلك القضايا، ومشغولة بمحاولة السباحة فى بحور دولية متلاطمة وهائجة، وأمام الضعف والوهن الذى وصلت إليه مؤسسات المجتمعات المدنية العربية عبر الوطن العربى كله، لم تبق إلا ساحة جيل الشباب العربى لإقناعه بجدوى ذلك الفكر وإقناعه بتحمل مسئولية تحويل ذلك الفكر إلى جزء من الواقع الحياتى العربى.
هنا سنواجه مشكلات حادة تتعلق بمدى تهيؤ جيل الشباب العربى لقراءة وفهم أدبيات ذلك الفكر، وبالتالى تحمل مسئوليته التاريخية لقلب ذلك الفكر إلى واقع. مشكلة المشاكل هى تراجع الإمكانات اللغوية، للًغة العربية الأم، عند الملايين من أطفال وشباب العرب. فالتراجع الكبير فى مستويات التعليم العام، بسبب شح الموارد المالية والأخذ بمنطق العولمة الرأسمالية المتوحشة الداعى لتقليص الإنفاق على الخدمات الاجتماعية، والتوسع الهائل فى خصخصة التعليم، بما يستتبعه من إهمال اللغة الأم لحساب لغات العولمة الأجنبية، هذا التراجع فى إتقان اللغة الأم قاد ويقود إلى انفصال الجيل الجديد عن تراثه الفكرى والثقافى وعن متابعة نتاج الحقل الثقافى العربى الحالى.
ولذلك فإن عدم حل إشكالية التعليم العام والخاص، المتعلقة باللغة العربية وبكميات ومستوى مقررات التاريخ والأدب والفلسفة والدين التراثية والعصرية، التى تقدم للطلبة العرب كجزء من ثقافتهم العامة وبناء هويتهم الذاتية العروبية، سيجعل من المستحيل الاعتماد على جيل الشباب العرب لتحمل المسئولية التى نتكلم عنها.
إذا أضفنا إلى ذلك انشغال الشباب الجنونى بوسائل الإتصال الاجتماعية التى تأخذ الكثير من وقته، والتى قسم كبير منها باللغات الأجنبية وعن ثقافة الآخرين وهمومهم، فإننا أمام إشكالية معقدة.
هنا يأتى دور الأنظمة السياسية العربية، وهنا نواجه محدودية إمكانياتها أو عجزها أو لا مبالاتها أو عيشها فى عوالم بعيدة عن عوالم الثقافة، بعد السماء عن الأرض.
***
ليس الهدف تثبيط الهمم والقول بأننا أمام حائط مسدود. الهدف هو أن نعى جميعا بأن حل إشكالية التضاد المصطنع بين التراث والحداثة، والذى طال عليه الأمد، وبالتالى حل إشكاليات العقل الجمعى العربى، يحتاج إلى جيل شباب عربى متمكن من لغته القومية وقادر على الانخراط فى ثقافته العروبية، بشقيها التاريخى التراثى والعصرى الحالى البالغ الغنى والتنوع.
مطلوب من كل المعنيين، على المستوى الرسمى وعلى مستوى المجتمع المدنى، أن يمكنوا جيل الشباب العربى من حمل مسئوليته التاريخية فى نقل العقل الجمعى العربى من حالته الحالية المتخلفة إلى حالة أكثر عقلانية وأكثر تحررا وإبداعا وإنسانية.
مفكر عربى من البحرين
dramfakhro@gmail.com