مصطفى كامل السيدالقضاء المصرى هو بكل تأكيد النجم الأساسى فيما جرى من تطورات مفاجئة وغير متوقعة على الساحة السياسية المصرية فى الأسابيع الأخيرة، فقد غيرت القرارات التى اتخذتها محكمة القضاء الإدارى، وقضاة لجنة الانتخابات الرئاسية وبعد ذلك المحكمة الدستورية العليا كثيرا من الحسابات السياسية، والقضاء المصرى هو أيضا النجم فيما صدر من أحكام بشأن الفنان عادل إمام ومخرجين وكتاب سيناريو لأفلامه.
وبينما رحبت معظم القوى السياسية المدنية وقسم كبير من الرأى العام بقرارات مجلس الدولة والقرارات الأولى التى اتخذتها لجنة الانتخابات الرئاسية، خرجت مظاهرات تندد بحكم محكمة الجيزة أول درجة التى أدانت عادل إمام بتهمة ازدراء الأديان، ووقف كثيرون يتعجبون من آخر قرارات لجنة الانتخابات الرئاسية التى لم تطبق معايير الحرمان من الحقوق السياسية، بما فيها حقى الانتخاب والترشيح على الفريق أحمد شفيق المرشح للرئاسة.
وهكذا يقف الرأى العام أو قسم منه على الأقل حائرا هل يؤيد استقلال القضاء، أم ينكر عليه هذا الاستقلال؟ ولكنه قضاء مستقل الذى حكم فى السابق بالتفريق بين المرحوم نصر حامد أبوزيد الأستاذ بجامعة القاهرة وزوجته الأستاذ أيضا بجامعة القاهرة الدكتورة ابتهال يونس، وهو أيضا الذى أصدر هذا الحكم بسجن وتغريم عادل إمام.
وقد أعرب هذا القسم من الرأى العام من خلال تصريحات لفنانين وكتاب عن الخشية من أن يكون هذا الحكم، الذى لقى هوى من تيارات إسلامية، كما اتضح فى الخطبة التى ألقاها الشيخ المحلاوى فى ميدان التحرير، هو مقدمة لما هو آت، عندما يتاح للأحزاب التى ترفع راية الإسلام السياسى، أن تشكل الحكومة، وأن تواصل تطبيق رؤية محافظة فى أمور حرية التعبير.
فما هو المخرج من هذا الموقف المحير؟: التسليم باستقلال القضاء يعنى قبول ما يصدر منه من أحكام، وليس هناك ما يؤكد أن تكون كل هذه الأحكام انتصارا لشرعة حقوق الإنسان بمفهومها العالمى الذى صدقت عليه حكومة مصر مع الغالبية الساحقة لحكومات العالم.
فهل يبقى القضاء المصرى هو الملاذ للقوى السياسية المدنية، التى تجد نفسها عاجزة عن مقاومة مد محافظ فى المجتمع لا ينتظر فى المستقبل القريب أن يفقد موضعه المتميز فى إطار السلطة التشريعية، والتى يحتمل أيضا أن يعززها بتوليه المناصب الأساسية فى حكومة قادمة وليس فقط وزارات الداخلية والخارجية وربما الدفاع، ولكن كذلك الوزارات التى تشكل الوعى الوطنى، وفى مقدمتها وزارات التعليم والثقافة والإعلام , هذه الوزارة الأخيرة التى لاشك أنه سيحرص على الإبقاء عليها.
هل يملك القاضى الحرية
فى تفسير القانون؟
والواقع أنه ليس هناك مخرج سهل من هذه الأزمة، وهناك سببان أساسيان لذلك، أحدهما وثيق الارتباط بالتطورات الدستورية والتشريعية فى مصر، وثانيهما له امتداد فى جميع النظم القانونية، أولها هو الطبيعة التوفيقية أو يرى البعض أنها طبيعة تلفيقية فى التشريعات الوطنية. وهى ليست وليدة اللحظة، ولكنها تعود إلى لحظة نشأة نظام قانونى وطنى بصياغة القانون المدنى على يد فريق قاده مفكر عبقرى هو المرحوم الدكتور عبدالرزاق السنهورى، الذى استلهم مواد القانون المدنى من رافدين اساسيين هما النظم القانونية الغربية، وفى مقدمتها القانون المدنى الفرنسى، والرافد الثانى هو الشريعة الإسلامية، ويلوم بعض مؤرخى النظام القانونى فى مصر جهد السنهورى لأنه فى رأيهم مال بدرجة أكبر نحو النظم القانونية الغربية، ولا شك أن هناك مساحة واسعة من التلاقى بين هذه النظم والشريعة الإسلامية، ولكن هناك أيضا قضايا ومجالات اختلاف، وخصوصا فيما يتعلق بالحقوق المدنية وفى مقدمتها حرية الاعتقاد والحريات الشخصية، على الأقل بحسب التفسيرات المتعددة لأحكام الشريعة ما بين تفسيرات واسعة الأفق ومتحررة وأخرى ضيقة الأفق ومتزمتة، ولا شك أن النص على مبادئ الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسيا للتشريع يعزز من الدعوة لتحقيق التناسق بين الشريعة والقوانين السائدة فى البلاد بحسب تفسير الشريعة الذى يأخذ به المشرعون والقضاة.
والسبب الثانى لهذه الأزمة، وتعرفه معظم النظم القانونية، يعود إلى طبيعة القواعد القانونية التى تتسم بالعمومية، ومن ثم فهى لا يمكن أن تغطى كل الحالات لا فى زمن صدورها، ولا بكل تأكيد بعد مرور الزمن عليها، وهو ما يستلزم من القاضى أن يعمل عقله فى تفسيرها. وليست هناك قواعد صارمة فى هذا التفسير.
هناك مدرسة تدعو إلى الالتزام بالنص الحرفى للقاعدة القانونية، وعدم الخروج عن دلالاته اللغوية، واستنباط ما ينبع من المعنى المقصود بالنص, وهناك مدرسة أخرى تدعو إلى الاسترشاد بالسياق الذى جاء فيه النص، والاستعانة به لمعرفة الذى قصده المشرع به. ولكن لا شك أن كلا من المدرستين تتركان مجالا كبيرا لحرية الاجتهاد من جانب القاضى. قد يصحح تعدد مستويات التقاضى من شطط فى التفسير فى مراحل التقاضى الأولى، ولكن تجربتنا المعاصرة تكشف أن ذلك قد لا يكون ضمانا كافيا لصيانة القضاء حقوقا أساسية للمواطنين. لقد أيدت الحكم بالتفريق بين نصر حامد أبوزيد وزوجته ابتهال محكمة أول درجة ومحكمة الاستئناف ومحكمة النقض.
وهكذا يبقى احتمال تعدد الأحكام القضائية بالنسبة لنفس النزاع قائما، ويبقى أيضا احتمال أن تأتى الأحكام كلها وهى تنتصر لتفسير معين للقانون يتضمن انتهاكا لبعض الحقوق مثل حق الاعتقاد، كما فى حالة الأحكام الخاصة بالبهائيين، أو حق التعبير، كما هو شأن حكم أول درجة والمستأنف بشأن عادل إمام، وسبب ذلك هذه المساحة الواسعة التى يتركها القانون للقاضى لكى يفسر القاعدة القانونية، فيبقى هذا التفسير حصيلة لثقافة القاضى وخبرته ومذهبه الفكرى وميوله السياسية، ولما كانت هذه المحددات تتفاوت بين القضاة لذلك يمكن أن نتوقع أن يصدر بعضهم أحكاما أقرب إلى الإعلاء من شأن الحريات المدنية والسياسية، وأن يميل آخرون إلى أحكام تضيق من هذه الحريات. والواقع أن قراءة لأحكام القضاء المصرى، وخصوصا ما صدر عن المحكمة الدستورية تظهر أن القضاء المصرى يميل عموما إلى توسيع الحريات السياسية والاقتصادية، ولكنه يميل إلى المحافظة فيما يتعلق بحرية العقيدة والمساواة بين الجنسين.
ولا أريد أن أميل إلى التشاؤم، ولكنى لا أستبعد تكرار مثل هذه الأحكام التى تضيق من حريات الاعتقاد والتعبير فى المستقبل، ولا تلك التى تهدر مبدأ المساواة فى الحقوق بين الرجال والنساء. وليس فى ذلك أى تجن على القضاء المصرى، فمواقفه مشرفة بالنسبة للحقوق السياسية، وقد أرسى كل من حكم محكمة القضاء الإدارى فيما يتعلق بالجمعية التأسيسية وحكم المحكمة الدستورية بالنسبة لتعديلات قانون مباشرة الحقوق السياسية مبادىء قيمة فى تفسير النص الدستورى وفى احترام حدود الفصل بين السلطات، وعلى الرغم من أن لجنة الانتخابات الرئاسية ليست مؤسسة قضائية، وإن كان كل أعضائها الخمس من القضاة، إلا أنها ربما لم تفارقها الحكمة فى قرارها الأخير الذى سمح للفريق أحمد شفيق بالاستمرار مرشحا للرئاسة.
ولكن القضاء المستقل هو فى كل الدول ليس منفصلا ثقافيا عن مجتمعه، ومن ثم فإن التيارات الفكرية الفاعلة فى هذا المجتمع تجد أصداءها بين القضاة، ولا يستطيع القاضى وهو يحكم ضميره أن يعزل نفسه فكرا ووجدانا عما يسمعه ويقرؤه ويعايشه فى هذا المجتمع.
أملنا الوحيد هو رقى المجتمع
عزاؤنا فى مواجهة هذه الأحكام هو أننا لسنا وحدنا بين الأمم مهما كانت درجة تقدمها نواجه هذا الموقف. عرفت الولايات المتحدة أحكاما قضائية تؤيد التفرقة العنصرية، كما أدان القضاء الإسبانى مؤخرا قاضيا محققا شاع إسمه فى مجال تعقب انتهاكات حقوق الإنسان فى بلده وفى بلاد أخرى فى العالم، ولا شك فى استقلال القضاء فى هذين البلدين. أملنا الوحيد هو فى استمرار رقى المجتمع المصرى، وعندما يرقى المجتمع، سوف يدرك كل قضاته أن احترام حريات الاعتقاد والتعبير هو أصدق معيار لهذا الرقى.