الأنبياء والرسل.. دُعَاة وقُضَاة! - أكرم السيسى - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 12:19 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الأنبياء والرسل.. دُعَاة وقُضَاة!

نشر فى : الخميس 29 أبريل 2021 - 9:55 م | آخر تحديث : الخميس 29 أبريل 2021 - 9:55 م

من المعروف عن الأنبياء أن أغلبهم عندما بلغوا سن السَعى كانوا يعملون بالرَعى أو بالزراعة، هكذا كان محمد وعيسى وموسى، ومن قبلهم نوح ومن تلاه من الأنبياء، عليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام، ثم بعد أن أصبحوا أنبياء صاروا «دُعاة» أى مُعلِمين بحكم طبيعة وظيفة النبوة، فالنبى أول أدواره أن يُعلم الناس، ويُنَبِّئُهُم بما أوحِى إليه من الله سبحانه وتعالى.

ولكننا لم نقرأ أو نسمع أن أحدا كتب أو تحدث عن أى نبى بأنه كان «قاضيا»، بينما سِيَرهم تؤكد أن أغلبهم ــ قبل بَعثهم للنبوة ــ قام بدور «القاضى»، وتأكد هذا الدور بعد بعثهم للنبوة، فكانوا يَحكمون بين الناس فى خلافاتهم، وذلك دليل على ثقة الناس فيهم، وفى أمانتهم، وفى خُلُقهم الحسن، وفى سلوكهم القويم، وفى هذا يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد عليه السلام: «فَلَا وَرَبِكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَىٰ يُحَكِمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَ لَا يَجِدُوا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجا مِمَا قَضَيْتَ وَيُسَلِمُوا تَسْلِيما» (النساء 65).

والآية تعنى أن الله أقسم بذاته العليا بأن الناس لا يصبحون مؤمنين حقا إلا عندما يرضون بما يحكم به النبى فيما يقع بينهم من نزاع فى حياته، ويتحاكمون إلى سنته بعد مماته؛ وأما عن سبب نزول الآية، فقد حدث خلاف بين الزبير ابن عمة النبى وبين رجل من الأنصار، وكان الخلاف حول مجرى مياه اسمه «شِراجِ الحرَةِ»، كانا يرويان منه أرضهما، فحكم النبى بينهما بقوله: «اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك»، ولكن اعترض الأنصارى، مُتهما النبى بأنه جامل الزبير لأنه ابن عمته، فنزلت الآية. 

كانت هذه الحادثة دليلا على أن النبى عليه السلام يقوم بدور القاضى ــ بجانب دعوته ــ بعد بعثه للنبوة، وقد قام بهذا الدور أيضا قبل بعثته، فكان دليلا على بلوغه قامة رفيعة بين أمته قبل أن تأتيه الرسالة النبوية؛ فقد جاء فى السيرة أن قريشا أرادت إعادة بناء الكعبة، فخصصوا لكل قبيلة جزءا منها، ولكنهم اختلفوا عندما بلغ الأمر موضع الحجر الأسود، فكان الخلاف فيمَن يفوز بشرف وضعه فى مكانه، فعرض عليهم أحدهم أن يُحَكِّمُوا فيما شَجر بينهم أول من يدخل عليهم فى المسجد، وشاء الله أن يكون محمد عليه السلام هو أول من دخل عليهم، وكان فى الخامسة والثلاثين من عمره (أى قبل البعثة بخمس سنوات)، فلما رأوه هتفوا جميعا: «هذا الصادق الأمين، رضِيناه، هذا محمد»!

وعندما عرض المتنازعون على محمد قضيتهم، طلب منهم إحضار رداء، ثم وضع الحجر الأسود وسطه، وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسك كل منهم طرفا من الرداء، وأمرهم أن يرفعوه، ويحملوه إلى موضعه، ثم أخذ النبى الحجر بيده ووضعه فى مكانه، وقد وجد المتنازعون فى هذا حَلا حَصِيفا، رضوا به جميعا، وبذلك انتهى النزاع بينهم، كما كان هذا الموقف الذى قام به محمد عليه السلام بدور القاضى، ووضع الحجر الأسود بيده فى مكانه إرهاصا ببعثه نبيا!

***

ومن قبل محمد، قام المسيح عيسى عليه السلام بدور القاضى أيضا، عندما جاءته جماعة من الكتبة قبضوا على امرأة متلبسة بخطيئة الزنا، فأحضروها إلى يسوع ليروا حكمه عليها، كانوا يريدون أن يحرجوا المسيح بأن يشارك بنفسه فى رجمها، أو أن يقف موقف المعترض على شريعة موسى، ولكنه عندما رآهم يتعاملون معها بقسوة المتعالى، وبغلظة المُتكبر، قضى بقوله: «مَن كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر»! فلما قال لهم المسيح قولته، رجعوا جميعا، ولم يرجمها أحد، لأنهم قالوا لأنفسهم: من منا بلا خطيئة؟! ومن منا الذى لا ينعم إلا بستر الله عليه؟! ونجد فى هذا الموقف تطبيقا لمبدأ إلهى وإنسانى وقضائى أصيل «الرحمة فوق العدل».

وفى الإسلام، «الستر أحَقُ من العقوبة»، فجريمة الزنا ليست عليها عقوبة فى الدنيا، وإنما عقوبتها فى الآخرة، هكذا يقول سبحانه: «وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنا إِنَهُ كَانَ فَاحِشَة وَسَآءَ سَبِيلا» (الإسراء 32)، ولكن يُطبق حد الزنا «الرَجم» على «المجاهرة بالفاحشة» فى حال إجماع أربعة شهود يُقرون برؤية الفعل، كـ«المرود فى المكحلة» (كناية عن الإيلاج التام)، وهذا أمر يتعذر تحقيقه بسهولة، وإذا أفْشَى الحدث أقل من أربعة، أو تبين أى اختلاف بينهم فى الشهادة تُوقَع عقوبة «القَذف» على المُدَعين جميعا! كما لم يثبت الزنا بالشهادة منذ فجر الإسلام، وإنما ثبت بالإقرار، لأن شهادة أربعة مع تطابق الأقوال بينهم تكاد تكون مستحيلة! 

***

وقبل محمد وعيسى عليهما السلام، كان النبى يحيى (يوحنا المعمدان) بن زكريا عليهما السلام، أعلم الناس وأشدهم حكمة فى زمانه، فقد درس الشريعة دراسة كاملة، لهذا آتاه الله الحُكم صبيا، كان يحكم بين الناس بالعدل، ويعرفهم طريق الصواب، ويحذرهم من الطريق الخطأ، ويقول عنه القرآن الكريم: «وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيا» (مريم 12).

كان النبى يحيى يعيش فى دمشق فى عصر ملك طاغية يُدعى «هيروديوس» الذى وقع فى عشق «هيروديا» زوجة أخيه، فأدانه أبناء مملكته، ولكنهم لم يجرءوا على مواجهته، أما النبى يَحيى ــ كان شجاعا فى الحق ــ فأعلن إدانته لهذا الأمر، وقضى بأن هيروديا لا تَحِل للملك، لأنها زوجة أخيه، وهو ما زال حيا، فقام الملك بقتل أخيه، معتقدا أن بهذا يكون زواجه من هيروديا مُحللا، فلم يتردد يحيى بأن يُعلن ــ مرة ثانية ــ أن الملك «قاتل»، فضلا عن أنه زان، فعاقب الملك النبى يحيى بالسجن! 

ولكن هيروديا لم تكتف بسجنه، فقد بقى فى نفسها غصة منه بسبب اعتبار زواجها من الملك زنا، فحاكت له بالتآمر مع ابنتها «سالومى» التى أرادت أن توقع النبى يحيى فى الخطيئة فى أثناء مرورها عليه فى سجنه، ولكنه ردها، وانتقاما منه، طلبت سالومى ــ بناء على نصيحة من أمها ــ من الملك أن يُحضر لها رأس يَحيى حتى تُلبى رغبته بأن ترقص له فى إحدى سهراته الماجنة فى القصر، وقد عُرِفت بـ«رقصة سالومى»، وبالفعل جاء حراس الملك برأس يحيى عليه السلام على طبق من فضة! فكان قتله نظير قضائه وحُكمِه بالعدل! 

***

أما موسى عليه السلام، قبل بعثه نبيا، فقد تعرض لمواقف عدة بعد خروجه من قصر فرعون الذى تربى فيه، وتعلم فيه الصفات القيادية، وأولها المُقاضاة بين الناس التى كانت من خصائص القصر وفرعون، وذلك عندما صادف رجلين متصارعين، فتدخل لنصرة أحدهما، ووكز الآخر بعصاه فقتله دون أن يقصد! وحزن موسى لمقتل الرجل، وأخذ يستغفر الله ويطلب التوبة منه. 

ويَحكى النص التوراتى احتجاج أحد الرجلين ضد موسى مستنكرا تدخله قائلا: «من أقامك رئيسا وقاضيا علينا؟»، فكان الرجل يرى موسى تجاوز حده بالمقاضاة بينهما! بينما يُخبرنا القرآن الكريم فى سورة الشعراء بالحوار التالى بين فرعون وموسى: «وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَتِى فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ. قَالَ فَعَلْتُهَا إِذا وَأَنَا مِنَ الضَالِينَ. فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِى رَبِى حُكْما وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُرْسَلِينَ» (آيات 19ــ21). 

ففى الآيات يستنكر فرعون فعلة موسى التى ارتكبها فى حق الرجل الذى وكزه بعصاه فمات، ويواجهه بها، ولكن موسى عليه السلام لم يَخَف، ولم يستعطف فرعون، واعترف بفعلته، بكل جرأة وقوة، لثقته بأنه كان بريئا، وأنه لم يقصد القتل، فيرد عليه موسى: أنا لا أنكر أنى قد فعلت هذا، ولكنى فعلته وأنا فى ذلك الوقت كنت من الضالين، أى قبل أن يشرفنى الله بوحيه وبرسالته، وإنما قصدت تأديبه ومنعه من الظلم لغيره. 

وأما بعد أن أصبح موسى نبيا، فقد ذكرنا، فى مقالنا السابق «مفاوضات البقرة الصفراء فى سد النهضة»، قصة لجوء بنى إسرائيل لموسى ليَقضى بينهم فى مَقتل رجل منهم، ولم يعرف أهله مَن القاتل، فحدث نزاع بين أقربائه، فأشار عليهم أحد الناس بأن يَحكم بينهم نبى الله موسى، فقضى عليه السلام بين المتنازعين بما أوحِى إليه، حيث أمر الله بنى إسرائيل بذبح بقرة صفراء، وضَرْب القتيل بأجزاء من الذبيحة، فأحيا الله القتيل ليشير إلى قاتله، ثم مات بعد ذلك! وقد أوضحتها الآيات الكريمة من 67 إلى 71 فى سورة البقرة. 

***

كانت هذه نماذج لآخر أربعة من الأنبياء والرسل، لم يكونوا فيها «دُعاة» فقط، بل قاموا بدور «قضاة»، نظرا لثقة الناس فى صدقهم وموضوعيتهم، كما أن ما تعلمناه من دور «القاضى» ــ كما هو الحال ليحيى عليه السلام ــ هو أن القاضى يجب ألا يخشى لومة لائم فى الحق، وأنه من الممكن أن يصبح سجينا أو شهيدا فى سبيل إقرار الحق، وترسيخ العدالة. 

وختاما، فإن قيام الرُسل بدور «القاضى» كان إرهاصا ببعثهم أنبياء، ومُتمما لرسالاتهم التى أوحيت لهم من رب العالمين بما فيها من حِكَم وشرائع، فيعلمونها للناس ليتبعونها، وليعم بينهم العدل والسلام فى الحياة الدنيا. 

أكرم السيسى أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية)– جامعة الأزهر
التعليقات