فى وهم كونية القيم - صحافة عربية - بوابة الشروق
الأربعاء 30 أبريل 2025 1:17 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

فى وهم كونية القيم

نشر فى : الثلاثاء 29 أبريل 2025 - 7:30 م | آخر تحديث : الثلاثاء 29 أبريل 2025 - 7:30 م

من أفعل الأوهام الأيديولوجية تأثيرًا فى الوعى الإنسانى المعاصر، وهم الكونية، تحديدًا كونية القيم الإنسانية المنظور إليها- من زاوية هذه الفرضية- بوصفها قيمًا مشتركة بين الأمم والمجتمعات والثقافات. ولقد شرع الوهم هذا يفرض أحكامه فى العالم إلى الحد الذى أضحى معه إنكار القول به، عند الأفراد أو المجتمعات أو حتى إبداء التحفظ من الركون إليه والتسليم بصدقيته، ضربا من التنكر الإنسانى العام والمشترك وانتهاكًا للمعايير التى تواضعت عليها الإنسانية أو مؤسسات «المجتمع الدولى» فى نظر رعاة فكرة الكونية والقائمين على فرْضها وسياسة العالم بها.
فى الإلحاح على فكرة كونية القيم إلحاح على فرضية لم يقم عليها دليل من واقع مجتمعات العالم وثقافاته، آى ذلك أن كونية القيم تفترض أن هذه تشكل نموذجًا واحدًا أوحد فى مجتمعات الأرض كافة، فيما الحقيقة الفاقعة غير القابلة للطمس والإنكار هى التعدد، بل والتنوع، على هذا الصعيد الذى لا يقْبل التنميط والنمذجة والاختزال. معنى ذلك، من وجه ثان، أن الإلحاح على الفكرة تلك يحمل دعوة صريحة إلى إعدام الخصوصيات الاجتماعية والقيمية والثقافية الخاصة بكل أمة أو شعب، والانتظام داخل نسق معد سلفًا يطلق عليه الكونى أو الإنسانى العام، أى فيما يشبه اندراجًا لا مشروطًا فى نظام معلب!
لا يحتاج المرء إلى كثير من التنقيب والسبر ليتبين أن الأمر فى هذه الكونية المزعومة يتعلق بإرغام، سياسى وقانونى ومؤسساتى، مفروض من خارج تبغى قواه فرض معايير واحدة على العالم وإلزامه بأن يعتمدها: إما طوعًا أو كرهًا، وحمله على التسليم بأنها وحدها المعايير العامة المشروعة التى ينبغى اعتمادها!
هذه ليست معايير مخترعة اختراعًا لغاية تطبيقها على الجميع، ولا هى مما توافق عليه من أمم العالم ودوله لكى تكون نظامًا عامًا معتمدًا، بل هى عينها المعايير والقيم السائدة فى بلدان الغرب: المعايير التى يرى الغرب أنها «مثالية» ورفيعة المقام، وملائمة للمجتمعات كافة، بل جديرة بأن تصير، بالتالى، مرجعية! وغير خاف، هنا، مقدار الاعتباط والتعسف والعنف المجتمعى فى هذا الفعل القاضى بإلزام أكثر شعوب الأرض بقيم شعوب قليلة (فى الغرب) لا تعبر عن شخصيتها الجماعية ولا عن تاريخها وثقافاتها، وكأنما القيم الاجتماعية والثقافية والأخلاقية سلع مادية قابلة للتصدير والاستهلاك العالمى أو مادة من هذا النصاب أو بهذه المثابة!
ما أغنانا عن الحاجة إلى بيان علاقة التلازم المكين بين فكرة كونية القيم وحقبة العولمة الجارية، إذ على صهوة هذه العولمة النزاعة إلى تحطيم الحدود والسيادات تحمل فكرة الكونية تلك وتفرض على العالم بأدوات العولمة ومؤسساتها. ولما كان القانون الدولى حمال أوجه (حيث القوى يفرض تأويله له، بل احتكار استخدامه لمصلحته)، فقد سيق فى أفق التسويغ والتشريع لما تقضى به إرادة قوى العولمة، وأجبر على تكييف منظومته وأحكامه لتتوافق مع مزعمة «كونية» أريد بها إخضاع العالم لإرادة الأقوى وفرض الطاعة عليه حتى فى نمط حياته!
على أن العولمة - من حيث هى لحظة جديدة من الإدماج القسرى للعالم - إذ تقضى بالتطويح العنيف بالحدود والسيادات من أجل تعميم (عولمة) معطياتها وفتح الأسواق والفضاءات أمام المنتوجات والتكنولوجيا والمعلومات، على نحو يتحقق فيها نظامها على أنقاض نظام الدولة الوطنية ذات السيادة، تقضى كونية القيم - المحمولة فى ركاب العولمة - بتحطيم منظومات القيم الخاصة بالأمم والمجتمعات، وهو الذى لا يكون تحطيمًا ناجعًا إلا متى ألغى كيانية المجتمعات واستقلالها الذاتى، لأن الإلغاء ذاك شرط لاستيلاد «مجتمع عالمى» واحد مزعوم ومحكوم بمنظومة قيم واحدة. لا غرابة، إذن، فى أن يقترن الحديث عن العولمة بالحديث عن «ما بعد الدولة»، وأن يقترن الحديث عن «كونية» القيم بالحديث عن «ما بعد المجتمع».

عبدالإله بلقزيز

جريدة الخليج الإماراتية
النص الأصلى:
https://tinyurl.com/2xhvkmx6

التعليقات