بعد بضعة أيام سيحل شهر رمضان المبارك، وسيصومه شابات وشباب هذه الأمة. إلى هؤلاء أتوجه بطرح السؤال الآتى: ما الذى يجب أن يشغل بالك ويتكرر يوميا فى ذهنك إبان هذا الشهر؟
سيقول لك البعض بأن الهدف الرئيسى من وراء الصيام هو تذكيرك بآلام الجوع والحرمان التى يواجهها الفقراء، وذلك من أجل أن تساعدهم، فى الحاضر والمستقبل، بشتى الطرق المادية والمعنوية للتخفيف من آثار الفقر أو الخروج من جحيمه. وستفعل ذلك فى سبيل التقرب من الله العلى القدير والحصول على رضاه. وبالتالى فالموضوع كله يختصر فى رياضة روحية تطهر وتزكى النفس.
لا إشكال مع ذلك الفهم فهو شرعى ونبيل ومن مقاصد الإسلام الثابتة. لكنى أعتقد أن من مسئولية الوالدين، وهما يدعوان بناتهما وأولادهما للقيام بذلك الواجب الدينى، أن يدعيا أيضا إلى استعمال ذلك الشهر للتفكر فى المقاصد الإسلامية الأخرى التى لا تدور فقط حول الذات، ذات الصائم، وحول الجزء الفقير من المجتمع، وإنما التى تمس حياة كل المجتمع وكل أفراده طيلة العام. ذلك أن الصفاء الروحى خلال هذا الشهر سيهيئ فى نفس الصائم قابلية أكبر وأعمق للتفكر فى معانى وتفعيلات المقاصد الإسلامية المرتبطة بالواقع اليومى المباشر وبحركة الحياة الإنسانية وتعقيداتها وتجلياتها فى العلاقات المجتمعية بكل صنوفها ومستوياتها.
فى قمة قائمة تلك المقاصد مقصد العدالة معبر عنه بتعابير الحق والقسط والميزان. بدون تحقق ذلك المقصد الرائع المبثوث فى كل جوانب رسالة الوحى الربانية سيظل الوجود الإسلامى الربانى فى عالم البشر غير مكتمل حتى لو صام المسلمون العام كله دون انقطاع.
وهذا ينطبق على قراءة القرآن الكريم أثناء رمضان. فإذا كان قراءة سطحية دون تفكر يومى فى المقاصد الكبرى فإنها ستكون قراءة لا تختلف عن الترديد الببغائى الأجوف الممل.
قول الله العلى العظيم «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى»، وقوله «وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل»، وقوله «ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون»، وقوله «كونوا قوامين لله شهداء بالقسط.. اعدلوا هو أقرب للتقوى»، وقوله «وأوفوا الكيل والميزان بالقسط.. وإذا قلتم فاعدلوا»، وقول الرسول (ﷺ) «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة».. تلك الأقوال كلها تشير إلى مكانة خاصة لمقصد وفضيلة العدل فى الإسلام وفى حياة البشر وواقعهم.
من هنا تجلى العدل فى كل ما شرعه الإسلام فى الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بل وحتى العبادية. وعندما شرع هذا الدين القصاص فقد أراد به تحقيق العدل مع الردع فى آنٍ واحد.
ما يجب أن يتعود الشباب والشابات النظر فيه إبان الخلوات الروحية الرمضانية هو ظاهرة سقوط العرب عبر القرون عن الارتفاع إلى مستوى المقاصد القيمية والأخلاقية والفضائل التى نادى بها الإسلام وأن يجعلوا هذا الشهر وقت تجييش للمشاعر والإرادة الجمعية لتصحيح مسار المصير المفجع الذى وصلت إليه قيمة العدالة، مما جعل تاريخ أمتهم تاريخ تسلط وظلم مناقض وناسف لذلك المقصد الربانى العظيم.
كان أسوأ ما فى تلك المسيرة التسلطية هى تعابير المباركة والتبرير التى صدرت عن بعض رجال الدين والأدب والشعر، من مثل قول أحد شعراء العصر العباسى مخاطبا أحد حكامها: «ما شئت لا ما شاءت الأقدار، فاحكم فأنت الواحد القهار»، أو من مثل القاعدة الفقهية عند البعض بعدم جواز الخروج على الحاكم الظالم اتقاء للفتنة.
إذا كان الصيام واجبا مقدسا فإن الالتزام بقيم وفضائل المقاصد الإسلامية الكبرى، المبثوثة فى كل سور القرآن الكريم، هى الأخرى من الواجبات المقدسة.
مفكر عربى من البحرين