مرة أخرى سنضطر لتأجيل الحديث عن متطلبات الانتقال إلى الحداثة العربية الذاتية بسبب كثرة الأحداث الكارثية المتعاقبة التى يعيشها الوطن العربى يوميا، وبسبب شبه الغياب الكامل لإرادة وفعل مواجهتها. وأصبح طرح الأسئلة عن غياب الإرادة أو اتخاذ القرار المطلوب أو إبراز الأسباب والإشارة إلى الخيارات الممكنة لمواجهة تلك الكوارث يقابل بالاستهجان واللامبالاة المحّيرة.
لا تظهر تلك النواقص أكثر من ظهورها عند التعامل مع القضايا العربية والإسلامية من قبل مؤسسات الحكم والسياسة فى الولايات المتحدة الأمريكية. أكثر من سنة والكيان الصهيونى يمارس أبشع صور الإبادة الجماعية تجاه شعب غزة، أطفالا ونساء وكهولا وشبابا، وتجاه كل مبنى فى أرض غزة، مدارس ومستشفيات ودور عبادة ومساكن شخصية، وكل ما نسمعه من أمريكا هو مناشدة الآلة الإجرامية الصهيونية أن تتجنب قدر المستطاع (نعم، فقط قدر المستطاع) قتل العزل فى اليوم الأول ثم تتبعه فى الأيام التالية بإرسال المال والرجال وأفتك أسلحة الدمار إلى سلطات ذلك الكيان لكى تزداد جبروتا وخروجا على كل القوانين الدولية.
وفى هذه اللحظة تفعل الأمر نفسه بالنسبة للإبادة والتدمير والاستباحة لكل ما هو مدنى فى طول وعرض لبنان، مكرّرة نفس العبارات ومقدّمة نفس المساعدات لليد القاتلة. وحتى عندما تقرر محكمة الجنايات الدولية بأن الكيان الصهيونى هو سلطة استعمارية محتلة وأنه يرتكب الإبادة الجماعية تنبرى أمريكا بعمل كل ما تستطيع لمحاربة قضاة المحكمة العادلين وتحاول أن تجعل قرارات المحكمة باطلة وغير شرعية وذلك بكل الطرق الابتزازية والتهديدية والتلفيقات التى لا تنتهى.
لا نحتاج أن نذكر بكل ما فعلته طيلة ثمانين سنة بالشعب الفلسطينى وكل مطالبه العادلة وطموحاته، وبكل ما فعلته بالعراق وسوريا وليبيا واليمن من دمار لمجتمعات تلك البلدان وتجييش لكل أنواع الإرهاب الميليشاوى المجنون ضدّ حكومات تلك البلدان، ولا قائمة جرائمها فى الكثير من بلاد المسلمين عبر القارات. فالقائمة طويلة ومفجعة وفاضحة للنوايا الاستعمارية التآمرية ضد وحدة العرب ونهوضهم واستقلالهم القومى والوطنى وضدّ أى تعاون إسلامى.
بعد كل هذا التاريخ وكل هذا الحاضر مع أنظمة حكم متعاقبة لبلد لم يؤذه قط أحد من العرب، بل أحّبوا شعبه واحترموه، ألا يحق لشعوب أمة العرب وعالم الإسلام أن يطرحوا السؤال التالى على أنظمة حكم لستّ وخمسين بلدا عربيا وإسلاميا: ألم تقتنعوا بعد بأن العلاقة مع كل مؤسسات الدولة الأمريكية العميقة، وعلى الأخص مؤسسات الحكم والتشريع والأمن العسكرى، تحتاج إلى وقفة مراجعة عميقة من قبل دول الكتلتين العربية والإسلامية، لإجراء تغيير جذرى بالنسبة لكل العلاقات السياسية والاقتصادية والتجارية والأمنية والإعلامية والثقافية؟ ألا نحتاج إلى وقفة كرامة وعزّة نفس ورفض للخضوع لهذه الدولة العميقة ومن يساندها من دول عميقة فى بلدان من مثل إنجلترا وألمانيا وفرنسا وغيرها من دول العالم الخاضعة للإملاءات الأمريكية؟
بل دعنا نطرح سؤالا أيسر: ألا تستحق الأفعال الأمريكية المضرة بصور متباينة بكل قطر عربى دون استثناء أن تكوّن مجموعة فكرية بحثية موضوعية وصريحة وشجاعة من المثقفين والمفكرين العرب والمسلمين لتدرس الموضوع وتقدم تقريرها لاجتماعات قمم عربية ــ إسلامية مشتركة ليقرّروا إخراج وطن العرب وعالم الإسلام من الجحيم الذى تصرّ الدولة العميقة الأمريكية على إبقائنا فيه وعيش أهواله ومآسيه؟
نحن نعلم أن الأحلام الكبرى، شبه المستحيلة، مثلما فعل غاندى أو مانديلا أو مارتن لوثر كينج أو عبدالناصر، لم يعد لها مكان عندنا منذ عدة عقود من التراجعات والانتكاسات، لكن ألا يحق لنا أن نرى ونتحسّس محاولة واحدة لتسلّق الجبال أو مغالبة الأمواج أو تتبّع ما يوحى به ألق أنوار السماء الزاهية للتفتيش عن الأحلام الكبرى التى تستحّقها أجيال المستقبل والتى بها نواجه صلف وغطرسة الدولة العميقة الأمريكية وحلفائها من الصهاينة والاستعماريين؟
نحتاج فى هذه اللحظة أن نتذكر ما قاله شكسبير من أن الجبناء يموتون المرة تلو المّرة وهو ما ينطبق علينا، إذ إننا مع الأسف نتجرّع الآن مثل تلك النوبات المتكرّرة من الموت على يد أمريكا بينما لا نبدى لمجابتها أية وقفة عز وكرامة.