ثلاثة مفاتيح مهمة لقراءة سيرة الفنان التشكيلى محمد عبلة، والصادرة عن دار الشروق تحت عنوان «مصر يا عبلة»، أولها قدرته على السرد المشوق، والتقاط اللحظة والموقف، وبناء الحكاية، واكتشاف مواطن المفارقة والسخرية، والتى لا تقل عن براعته كرسّام بالفرشاة والألوان، وكثير من فصول الكتاب يمكن اعتبارها لوحات مرسومة بالكلمات.
المفتاح الثانى؛ هو أن الفن هو العنوان والمحور، نبدأ معه، وننتهى إليه، والرحلة كلها تتعلق بحكاية شغف فنان بالرسم، هواية ودراسة واحترافًا، والبحث عن هوية وأسلوب ورؤية، الموهبة وحدها لا تحلّق فى فراغ، وكل الحصاد الإنسانى والمعرفى، لا بد أن يتبلور فى بؤرة الفن، وكل الخبرات والتجارب هى المادة والزاد، دون التغاضى عن أهمية التكنيك والشكل.
المفتاح الثالث؛ هو تلك الشخصيات التى جعلت من الكتاب معرضًا فريدًا للبشر، المشهورين والمغمورين، الأقارب والأغراب، هم الأساس فى كل شىء، وهم الذين يأخذوننا إلى الأماكن، إلى بلقاس حيث الميلاد والنشأة، ثم إلى الإسكندرية، حيث الدراسة فى كلية الفنون الجميلة، ثم إلى القاهرة، حيث الخدمة العسكرية، وبدايات العمل والمعرض الأول، ثم الانتماء إلى دائرة أهل الفن والثقافة، وأحسب أن البشر سيكونون هم أيضًا مفاتيح الجزء القادم من المذكرات، مع تجربة السفر إلى أوروبا.
•••
هذه طريقة سردية ممتازة حقا، تدعمها الصور الفوتوغرافية، ليكتب عبلة عن شخصياته بكثيرٍ من المحبة، ولنراهم فى قلب سنوات التكوين الثقافى والاجتماعى، لا معنى للأماكن وللدراسة وللفن بدون الناس، هكذا يرى عبلة فنه عمومًا، وهكذا ترجمت السيرة المكتوبة تلك الفكرة بكل جدارة.
ما يثير الإعجاب حقًّا أن حضور الشخصيات الخاصة، يعادل حضور الشخصيات العامة والشهيرة، والاثنان يتجاوران بطريقة سلسة وحميمية، وفى الخلفية يمر الزمن، وتتغير أحوال المجتمع كله، فى سنوات السبعينيات الصاخبة، التى عاصرتُها صبيّا، والتى كتبتُ عنها طويلًا، مؤكدًا أنها سنوات خطيرة ومؤثرة، شهدت تحولًا شاملًا، يشكّل حياتنا عمومًا حتى يومنا هذا.
لا تظهر هذ التغيرات بمنطق تحليلى مباشر، ولكنها تصل إلينا عبر الشخصيات النابضة بالحياة، وعبر رحلة فنان موهوب فى مجتمع يتغيّر، فمن خلال الخاص يظهر العام، ويتشكل الوعى، وأظنها أفضل طرق كتابة السير، وأكثرها ذكاء فى استدعاء ذلك الكائن المراوغ، الذى يسمونه «الذاكرة».
أفضل وسيلة لحضور المكان هو أن يرتبط بشخص وحكاية، وهذا ما نراه فى كل الفصول، والأهم من ذلك أن ترى الشخصية بتمامها وبتفاصيلها، لذلك ستتذكر -مثلًا- شخصية ناظرة المدرسة الابتدائية، التى بدأت تهتم بالطفل الموهوب، بتوصيةٍ من المفتش، وستتذكر ساعى البريد المثقف الذى يفتح الخطابات، والذى يمتلك حكاية عائلية غريبة، وتتذكر الصديق الفنان الذى تحوّل من الفن إلى التدين، بنفس الدرجة التى تتذكر فيها مواقف عبلة مع شخصيات شهيرة، مثل صداماته المتتالية كطالب مع الفنان التشكيلى حامد عويس عميد الكلية، ولقائه فى الصباح - لأول مرة - مع نجيب على مقهى الفيشاوى، وزيارة عبلة للفنان حسين بيكار فى منزله، بعد أن كتب بيكار محتفيًا بأول معارض عبلة فى المركز الثقافى الإسبانى.
حضور الأب المكافح الذى يبدأ نشاطًا جديدًا كلما عاكسته الظروف والأحوال، والذى صار تاجرًا ومقاولًا وصاحب مصنع للألبان، لا يقل عن حضور أولياء الفن الصالحين، الذين زارهم عبلة مودعًا قبل سفره لإسبانيا، من أمثال شادى عبد السلام، وأحمد فؤاد نجم، والنحات العظيم عبد البديع عبد الحى، وفنان الخزف الفذ سعيد الصدر.
•••
عبر شخصيات لا يعرفها أحد، مثل عمال المركب المثقل بحمولته، فى رحلته من الأقصر إلى قنا، اهتدى الشاب محمد عبلة إلى فكرة مشروع تخرجه، وعبر سيف وانلى التحق الفنان الموهوب بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية، بعد أن ترك كلية الفنون التطبيقية، ومن خلال زملاء الدراسة عرف الفنان المدينة بناسها وأماكنها، هامشًا ومتنًا، ومن خلال رئيس المركز الثقافى الإسبانى، عاد محمد عبلة إلى الفن، بعدما أجبرته ظروف الحياة على العمل فى مجال بيع قطع إكسسوار السيارات!
شخصيةٌ فمكانٌ فحكايةٌ فجزءٌ من تكوين يصنع لوحة هائلة، هذا هو منهج السرد، وعنوان سحر الكتاب، رغم كسر الترتيب الزمنى أحيانًا، فالحديث عن المدرسة يعود من جديد، فى منتصف الكتاب، والأم وحكمتها فى اتخاذ القرارات الصعبة فى حياة الابن، يظهران فى مرحلة متأخرة، ولكن الشخصيات لا تفقد حضورها الإنسانى، لأنها مرسومة بعناية، ولأنها تلعب دورها فى التكوين، فى المكان والزمان المناسبين.
لا تبدو موهبة السارد مستقلة عن قدرات جدة عبلة لأبيه، ولكن حكايات الجدة مخيفة مرعبة، وحكايات عبلة عن صراع أكثر مشقة لتقلبات الحياة، ولفوضى المدينة، ولتغيرات ما بعد الانفتاح، أما طقس الجدة العجيب، بدفع حفيدها لالتهام قلب ذئب بعد طبخه، فيفسر لنا طبيعة شخصية الفنان الصلبة، التى واجهت الغربة ومشكلات الفن والحياة، بكثيرٍ من الصبر، رغم لحظات مرارة لحظات غياب الأفق والطريق.
نصح شادى الفنان الشاب محمد عبلة أن يشاهد فيلم «درسو أوزالا» لكوروساوا فى سينما أوديون، وأن يعود إليه للمناقشة، وقال محفوظ لعبلة، عندما عرف أنه رسام: «يا بختك»، وفسَّر ذلك بأن الفنان يمكنه أن يرسم أثر الشمس المباشر على المكان، ولكن الكاتب يستغرق صفحاتٍ لكى ينقل إلى القارئ دفء الشمس، ونصح بيكار الشاب عبلة أن يجد عملًا مستقرًا، لأن الفنان لا يستطيع أن يعيش من بيع لوحاته!
•••
كل شخصية أضافت وعلّمت وساهمت فى تشكيل لوحة السيرة، وسنوات الدراسة الخمس، أو مرحلة الوظيفة، أو فترة التجنيد العامرة بالشخصيات والحكايات، ليست إلا ضربات فرشاة الحياة على لوحة التكوين، أو مادة الواقع التى صنعت الفنان، فأعادها مرسومة على الورق والقماش.
وبينما يحيلنا عنوان الكتاب إلى عبارةٍ شهيرة فى نهاية فيلم «الصعود إلى الهاوية»، فإن المتن يعيد الحكاية إلى أصلها: الوطن بناسه وأماكنه، فلولاهما ما كان الفن، ولا الفنان.