أرسل لى أحد الأصدقاء مقطعا مسجلا لأحد المصريين المقيمين فى الولايات المتحدة الأمريكية، يتحدث خلاله بنبرة يائسة بائسة عن تطورات الوضع فى أسواق الولايات المتحدة الأمريكية. كان التركيز على السوق العقارية، وكيف أن تضخم الإيجارات والأسعار بشكل عام يقبض على أنفاس المقيمين بالولايات الكبرى، وأن هذا لا يمنع من وجود فرص للعمل بأجور ورواتب جيدة، ولكنها لم تعد تفى باحتياجات الناس. لاحظ صاحبنا أن الكثيرين أصبحوا يقيمون داخل سياراتهم لتوفير أجور ومصروفات السكن! ويستخدمون حمامات النوادى الصحية ذات الاشتراك المنخفض نسبيا (يدور حول 50 دولارا فى الشهر) من أجل استخدام الحمامات وتبديل الملابس، بينما العمل على مدار الساعة يمارس داخل السيارة، التى تستخدم للتوصيل ضمن برامج الاقتصاد التشاركى، أو أى استخدام آخر يدر دخلا.
الرسالة المسجّلة كانت موجّهة بشكل كبير إلى المهاجرين والوافدين المحتملين إلى الأراضى الأمريكية، والذين لن يمكنهم الإقامة والعيش فى ظل تلك الظروف ما لم يتمكنوا (وفقا لصاحب الرسالة) من تدبير مبالغ طائلة من المال، وأن يأتوا بكل مدخراتهم دفعة واحدة من أجل أن يغطوا فقط مصاريف الإقامة الأساسية!.
• • •
جاءتنى رسالة المغترب المصرى فى الوقت الذى أعلن فيه الفيدرالى الأمريكى عن تثبيت أسعار الفائدة، مشيرا ومصرّحا باتجاه حتمى لرفع الفائدة على الدولار الأمريكى عدة مرات خلال العام الجارى لاحتواء موجات التضخم. قرار الفيدرالى قوبل باستنكار كبير من عدد من الخبراء الذين رأوا فيه خطوة متوقعة ولكنها ليست الخطوة المطلوبة لاحتواء التضخم، إذ إن التعجيل باستحقاقات مارس والتى يتم خلالها قطع إمداد التيسير الكمى فى الأسواق، والبدء فى رفع أسعار الفائدة، ربما يكون ضروريا فى ظل تسارع الأحداث المغذية للتضخم، ومنها الارتفاع الكبير فى أسعار النفط وعقوده، والاضطرابات الجيوسياسية بين روسيا وأوكرانيا المنذرة بتداعيات عالمية مقلقة، بدأت بالفعل فى التأثير السلبى على أسواق القمح والغاز الطبيعى وغيرهما من منتجات يتوقع أن تتضرر صادراتها كنتيجة مباشرة لتصاعد التوتر بين الدولتين.
ولما كانت الولايات المتحدة تعيش منذ سنوات صراعا مكبوتا للمواءمة بين بقائها أرضا للأحلام ومستقرا للمهاجرين من كل أصقاع الأرض، وبين كونها بلدا معرّضا لاختلال توازن تركيبته السكانية لصالح العرق «الهسبانى» اللاتينى على حساب العرق الأبيض. وتتعرّض باستمرار إلى موجات من الهجرة غير الشرعية من جهة المكسيك، بما يؤدى إلى خلق أزمات فى سوق العمل، ويضفى قبولا متزايدا على الأفكار الشعبوية المتطرفة لأمثال «دونالد ترامب» وتياره المتشدد، وينذر بتصاعد مستمر فى حدة النفور من مزاحمة المهاجرين الجدد للسكان على فرص العمل المحدودة، ومن ضغطهم على مستويات الأجور بقبولهم بما لا يقبله الرجل الأبيض فى الغالب... ذلك الصراع يدور مع نظرية المؤامرة فى مدار الريبة من تباطؤ التعامل مع أزمات انتشار الأوبئة، ثم التراخى فى مواجهة التضخم بالقرارات المنطقية الحاسمة التى ينتظرها العقلاء، ولا أقول الخبراء! ولا أتصور أن التمهّل الأمريكى فى اتخاذ قرارات السياسة النقدية الانكماشية الضرورية، يأتى استجابة لنداءات قيادتى صندوق النقد والبنك الدوليين، الداعية إلى مراعاة ظروف الدول النامية والناشئة المدينة، والتى بالقطع سوف تزداد معاناتها من رفع سعر الفائدة على الدولار، ومن ثم زيادة عبء الدين الخارجى وخدمته المقوّمة بالعملة الصعبة.
بالطبع لا أسيغ طرح تعمّد الإدارة الأمريكية (الجمهورية ثم الديمقراطية) خلق مناخ طارد للهجرة غير المرغوب فيها، عن طريق نزع عناصر الجذب من الدولة! وتهيئة ظروف يستحيل أن يقبلها المهاجرون الفقراء. فيتم تصفية تيار الهجرة الوافدة للسماح لأصحاب الاستثمارات ورءوس الأموال بالمرور إلى الداخل، بغرض ضبط المزيج السكانى على النحو الذى يضمن للدولة الرأسمالية الأكبر فى العالم أن تبقى فى موقعها أطول فترة ممكنة. الفاتورة التى يدفعها المواطن الأمريكى لنجاح هذا الطرح أعظم من أن يستقر معه المجتمع على أية حال. لكننى أيضا لا أقبل فكرة أن تدق مؤسسات الدولة ومراكز الإحصاء واستطلاعات الرأى الحكومية والخاصة نواقيس الخطر لعدة سنوات، دون أن تحرّك الإدارة الأمريكية ساكنا للاشتباك مع الأزمة المؤكدة الحدوث.
• • •
الراجح فى رأيى أن صناعة القرار الأمريكى باتت فى الآونة الأخيرة أكثر تعقيدا من أى وقت مضى، بحيث صار الهاجس الأمنى يلعب فيها دورا حاسما، حتى فى تفاصيل القرارات الاقتصادية العادية. والهاجس الأمنى هنا لم يعد قاصرا على الخوف من الإرهاب الذى تصاعد مع هجمات الحادى عشر من سبتمبر عام 2001، لكنه يمتد اليوم ليشمل الخوف من التغيرات الحادة فى التركيبة السكانية، وانتشار الفقر بمعدلات سريعة نتيجة للنمو السكانى غير الطبيعى الناشئ عن الهجرة، وعن ارتفاع معدلات النمو الطبيعية بين الفئات الأكثر فقرا فى المجتمع.
لإيضاح فكرتى، دعنى أضرب مثلا بقرارات تمديد فترات الإغلاق للسيطرة على جائحة كورونا، سواءً فى الولايات المتحدة أو معظم الدول الجاذبة للهجرة. بالتأكيد تلك القرارات قد انعكست على حجم الهجرة الوافدة وعدد اللاجئين إلى تلك الدول، على نحو تحقق معه الحد من حجم ذلك التيار بشكل ملحوظ خلال العامين الماضيين. فالسفارات والقنصليات لا تعمل بطاقتها الطبيعية، والتدابير الأمنية على الحدود باتت أكثر صرامة مشفوعة بالحجر الصحى وأسباب الخوف من انتشار الوباء، وحركة الملاحة الجوية والبحرية تضررت بشكل كبير... فخلال الفترة بين 10 مارس 2020 و4 أكتوبر 2021 تم تطبيق نحو 109.591 قيد على الانتقال حول العالم. وبفرض معدل نمو صفرى للهجرة بين 1 مارس 2020 و1 يوليو من العام نفسه، فإن تقديرات الأمم المتحدة تشير إلى تراجع الهجرة الدولية بنحو 2 مليون مهاجر عن التقديرات الأولية السابق توقعها للفترة بين منتصف 2019 ومنتصف 2020. قدّرت نسبة التراجع فى تيارات الهجرة الدائمة المتدفقة إلى دول منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية OECD فى العام 2020 بنحو 30%، وهو تراجع تاريخى غير مسبوق منذ العام 2003، بينما قدّر التراجع فى هجرة الأسر بنسبة 35% وهو الأعلى بين مختلف فئات الهجرة.
من ناحية أخرى فإن جائحة كورونا قد وقع ضررها الأكبر على المهاجرين والأقليات فى العديد من الدول. اعتبارا من 10 أكتوبر 2021 كان المهاجرون فى الدول العشرين الأعلى إصابة بكوفيدــ19 يمثلون نحو 33% من إجمالى عدد المهاجرين حول العالم. وقد شكّلت تحويلات هؤلاء المهاجرين إلى أوطانهم الأصلية نحو 41% من إجمالى تحويلات العاملين، وفقا لدراسة أجراها «مركز تحليل بيانات المهاجرين العالمى».
وقد قدّر «مركز التحكم والوقاية من الأمراض» فى الولايات المتحدة الأمريكية أن نحو 41% من وفيات كوفيدــ19 كانت بين السكان من ذوى الأصول اللاتينية! وأن ارتفاع معدلات الوفيات فى الأعراق غير البيضاء جاء أيضا مقترنا بالتاريخ المرضى للسكان، والكثير من العوامل الديموغرافية المؤثرة سلبا على صحة هذه الأقليات العرقية.
وبالنسبة لبعض الدول التى أفصحت عن معدل الإصابات بها وفقا لتركيبتها السكانية مثل المملكة العربية السعودى وسنغافورة، فإن السعودية قد أعلنت أن 75% من حالات الإصابة المؤكدة بالفيروس اعتبارا من 7 مايو 2020 وحتى نهاية العام الماضى تقع بين المهاجرين. أما سنغافورة فقد أكدت أن نحو 95% من الإصابات حتى 19 يونيو 2020 كانت بين المهاجرين!.
وإذا كنت قد أشرت منذ بدايات الجائحة وتحديدا فى مارس 2020 إلى التوازن الضرورى بين الموارد وحجم السكان وفقا لنظرية «مالتس» الشهيرة، وذلك فى مقال بالشروق بعنوان «مالتس يبتسم فى قبره»، فإن هذا التوازن يجد سبيله إلى التحقق ولو كان مشفوعا بالكوارث الطبيعية والمجاعات والأوبئة، حتى وإن ظن البشر أنهم قد قدروا على الأرض، وأحكموا السيطرة على الحروب واسعة الدمار كبديل فاعل وسريع ومؤلم لتحقيق ذلك التوازن المشئوم. تنسحب نظرية مالتس إلى أسباب النمو السكانى غير الطبيعية وفى مقدمتها الهجرة الدولية. ومن المؤكد أن الأسباب الطبيعية للتأثير على حجم ونوع تلك الهجرة، والعوامل الاقتصادية المرتبطة بتلك الأسباب، ستلقى قبولا فى المجتمع الدولى أكثر من أى أسباب وعوامل مانعة من صنع البشر.