المدن الجديدة وبناء القيمة - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 2:33 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المدن الجديدة وبناء القيمة

نشر فى : الإثنين 31 مايو 2021 - 7:55 م | آخر تحديث : الإثنين 31 مايو 2021 - 7:55 م
كثيرا ما يثار الجدل بشأن الجدوى الاقتصادية من إقامة مدن ومجتمعات عمرانية جديدة. البعض يراها ترفا لا مسوّغ له، والبعض الآخر يراها ضرورة حتمية لتحقيق التنمية، والحقيقة تكمن كعادتها بين الرؤيتين. المدن الجديدة يمكن أن تعزز من بناء وخلق القيمة الاقتصادية للدولة، فقط حينما تراعى عددا من الاعتبارات، وتستهدف حزمة من المستهدفات.
وقد تطرّق المنتدى الاقتصادى للملك عبدالله الذى عقد عام 2015 إلى مفهوم القيمة فى المدن الجديدة. كما سلّط الضوء على تجارب وتحديات أبرز المدن تحت الإنشاء فى عدة دول نامية: منها مدينة العلمين والمنطقة الاقتصادية الجديدة بمصر، ومدينة جازان بالمملكة العربية السعودية، ومدينة مصدر بأبى ظبى، ومدينة إسكندر ماليزيا بدولة ماليزيا... وغيرها من مدن جديدة تم تقديم رؤيتها وفلسفة إنشائها للمشاركين بالمنتدى، وفى طليعتهم مجموعة مختارة من المستثمرين والمطوّرين إلى جانب ممثلى الحكومات وأصحاب الرأى والفكر.
***
من الملامح المهمة التى ترتكز عليها إقامة المدن الجديدة ما يعرف بالقيمة المادية. والقيمة المادية لأى مدينة تنشأ من خلال مشروعات البنية الأساسية، والبيئة الجديدة للعمل أو ما يمكن وصفه بالبنية المؤسسية، فضلا عن البنية التكنولوجية. ويكمن التحدى الأكبر لإنشاء تلك البنى على أحدث ما وصلت إليه المعرفة البشرية فى توفير التمويل المناسب لذلك. ولأن تكلفة التمويل الباهظة لا يمكن تحمّلها فى غيبة مردود واضح للاستثمارات الممولة، فإن العائد على الاستثمار فى البنية الأساسية متمثلا فى القيمة المادية الناشئة عنها يجب أن يتم تحليله ودراسته بشكل جيد قبل الشروع فى إقامة تلك المدن الجديدة أو حتى فى تطوير البنى الأساسية بالمدن القائمة. القدرة على تضمين عناصر للجدوى الاجتماعية والوفورات الاقتصادية غير المنظورة تظل من أبرز مقومات نجاح أى مشروع جديد يتطلب تمويله الكثير مما يثقل الخزانة العامة للدولة. من تلك الوفورات دعم الشعور الوطنى بالملكية العامة والزهو المقترن بجودة وأصالة تلك المشروعات، وبخلق هوية خاصة بتلك المدن الناشئة، وترجمة ذلك الشعور إلى طاقة للعمل والإنتاج والحد من السلوك العدوانى والاعتداء على ممتلكات الدولة.
أما عن خلق وإحراز القيمة المضافة بالمدن الجديدة فتتطلب فهما واسعا للحلول الذكية التى يتعين توافرها فى مشروعات البنية الأساسية وسلاسل القيمة المختلفة بتلك المدن. الحلول الذكية من شأنها رفع كفاءة الخدمات المختلفة وتحسين التنسيق بين مختلف التشابكات الناشئة عن إقامة مجتمعات جديدة، وتقليل الهدر فى الوقت والمجهود، والأخطاء البشرية. من هذا نجد أن العاصمة الإدارية الجديدة تقوم على مفهوم المدن الذكية المنفتحة على تداول البيانات والمعلومات بسرعة وكفاءة، والمعنية باستخدام التكنولوجيا المتطورة فى إدارة التفاعلات المختلفة بين المؤسسات والأفراد. الأمر الذى يخلق نوعا خاصا من فرص العمل التى لم يكن عليها طلب معتبر فى المدن القديمة، ومنها خدمات النقل والدفع الذكية وأنظمة إدارة الموارد المتطورة.
من هنا تنبع ضرورة تطوير النماذج الكمية (بمعرفة وزارة التخطيط وأذرعها المختصة) التى تقف على طبيعة القيمة المضافة المتحققة لمجتمع الأعمال (تحديدا) فى المدن الجديدة والتى لا يمكن أن تتحقق إلا بالإنفاق السخى على مشروعات البنية الأساسية. كذلك توضّح تلك النماذج آلية تحقيق الإيرادات المشروطة بتوافر بنية أساسية وتقنية حديثة، مع ترجمة الإنجازات المعنوية والاجتماعية فى صيغة كمية ومادية كلما أمكن ذلك.
ولأن تحقيق القيمة لمجتمع الأعمال يتطلب أكثر من مجرد توفير مواقع للعمل وشبكات متطورة للنقل والاتصالات، فلابد من اعتماد استراتيجيات واضحة لجذب الاستثمارات الخاصة (غير الموجهة أو المملوكة للدولة) وروّاد الأعمال. من ذلك تطوير منظومة التعليم التى تعتبر المصدر المباشر للقوى العاملة بالمشروعات المستهدف جذبها إلى المدن الجديدة. تطوير التعليم المهنى والفنى القائم على دورات متخصصة ومكثفة يمكن الاستعانة به مؤقتا لحين تطوير منظومة التعليم بأكملها والتى تستغرق وقتا طويلا من عمر الحكومات لكنه ليس طويلا فى عمر الأمم. من عناصر الجذب أيضا تحسين بيئة ممارسة الأعمال بتخفيض الوقت والتكلفة اللازمين لإقامة أى مشروع جديد، مع توفير نظام ضريبى سهل ومرن وآلية عملية وشفافة للتخارج وتصفية الأعمال والإفلاس... إلى غير ذلك من شروط يمكن قياس كفاءتها بمتابعة تصنيف مصر فى تقرير سهولة ممارسة الأعمال والذى تحتل فيه المركز 114 من بين 190 دولة، إذ جاء ترتيب مصر متأخرا فى مؤشرى رأس المال البشرى (المركز 105 من بين 157 دولة)، والتطور الرقمى (المركز 54 من بين 60 دولة)، بينما حققت تحسنا فى مؤشر مدركات الفساد، وإن كانت لا تزال فى مرتبة متأخرة مقارنة بالدول محل الدراسة (المركز 106 من بين 180 دولة).
***
وعلى الرغم من كون المدن القديمة القائمة تتمتع بمزايا كثيرة تفتقر إليها المدن الجديدة، منها توافر القوى العاملة وسوق كبيرة للاستهلاك، فإن المدن الجديدة يمكن أن تحقق مزايا أخرى منها إقامة بيئة متكاملة تلبى الاحتياجات المعاصرة لمنشآت البحث العلمى والشركات والعاملين وأسرهم... من المهم أيضا أن يتلافى المطورون فى المدن الجديدة أخطاء المطوّرين القدامى الذين كانوا يتعاملون مع المساحات المخصصة للعمل والسكن وكأنها بلا ثمن! مساحات واسعة لاستخدام شخص واحد لاعتبارات الوجاهة والمكانة الاجتماعية، ومساحات خانقة لعدد كبير من العاملين الذين يتعاملون مع المواطنين فتبهت عليهم أخلاق الزحام... من الأهمية بمكان أن يتم تجهيز مناطق العمل بعناصر الأمن المعلوماتى وشبكات الاتصال التى تخدم عددا كبيرا من المستخدمين فى حى متكامل أو شارع كامل مع توفير بيئة صديقة لأصحاب المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر الذين يمكنهم استخدام مزايا التكنولوجيا والاتصالات والسوق وسائر الخدمات بتكلفة منخفضة وإيجار مناسب. لتتصور هذا عزيزى القارئ عليك أن تفكر فى نموذج المكاتب المجّهزة المعدة للإيجار بأبراج وبنايات كبيرة فى المدن الجديدة، وكذلك المحال الصغيرة المتاحة فى ساحات مشتركة ومفتوحة للمواطنين... وأن تقارنه بالشكل التقليدى لبناء مقر جديد لمشروع ناشئ ربما تتكلّف مصاريف إنشاء مقرّه وحدها ما يأكل معظم رأس المال. فالمدن الجديدة يجب أن تنشئ ثقافة جديدة وفهما مختلفا لاحتياجات العمل والإنتاج بعيدا عن سلوكيات البذخ والإفراط.
فى النهاية لا تنشأ المجتمعات فى المبانى والطرق والبنية الأساسية والمخططات، لكنها تنشأ عن تفاعل كل تلك العناصر مع القاطنين بتلك المبانى والمستفيدين من الطرق والخدمات. فلابد أن تسمح المدن الجديدة لقاطنيها بالمساهمة فى تخصيص المساحات على نحو يحقق أهداف البقاء والنمو، بعيدا عن العشوائية بالطبع وفى إطار منظومة فاعلة لاتخاذ القرار تعزز من أهمية وديمقراطية وحدات الحكم المحلّى المنتخبة. لابد أن تخصص مساحات كبيرة للمشى وأن تعطى الأولوية للمشاة ومستخدمى الدراجات الهوائية، وأن تكون المدن الجديدة صديقة للبيئة ومستخدمة لعناصر الطاقة المتجددة النظيفة.
هناك الكثير مما يمكن قوله فى تعزيز القيمة المضافة بالمدن الجديدة، لكن تأتى الدروس المستفادة من إقامة مدن ومنشآت غير مأهولة، أو مدن قديمة تشيع بها العشوائية، فى مقدمة ما يجب دراسته لدى التخطيط لإقامة أى مجتمع بشرى جديد.
مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات