رحلت أمى سنة ٢٠٠٧، فى الواحدة صباحا فى أول أيام عيد الفطر، فأصبحت الزيارة المعتادة لمدفننا فى العيد لها خصوصية أكثر من غيرها. وكانت الخطة يوم الاثنين الماضى أن يبدأ اليوم بزيارة ماما وخالتى عواطف وخالى محمود ــ رحمهم الله جميعا ــ فى القرافة، وأن يشمل اليوم المرور على والدى ــ ربنا يديم عليه الصحة ــ للتعييد عليه، والمرور على مستشفى قصر العينى للاطمئنان على زوج أختى، الأستاذ أحمد سيف ــ ربنا يشفيه ويرجعه لبيته ــ وهو يمر بفترة نقاهة مش سهلة بعد عملية جراحية كبيرة.
المعتاد عندنا أن تتجه الأسرة ــ بعد أن يزور القرافة من يزور ــ إلى "لَـمَّة" أسرية كبيرة، تطول من الغداء إلى وقت متأخر من الليل، قد يتركها البعض لفترة ليذهبوا إلى السينما. وكانت هذه اللـمة زمان فى بيت خالتى عواطف حيث كان هو بيت جدى، ثم انتقلت اللـمة إلى بيت أختى، ليلى، حيث إنه ملاصق لبيت والدى. أما هذا العام، فقد امتنع العيد عن بيت ليلى، بما إن ابنها، علاء، مسجون فى ليمان طرة، وبنتها، سناء، محبوسة فى القناطر، وهى وبنتها اللى فاضلة، منى، ملازمين لأحمد سيف فى المستشفى.
اختلت التقاليد الراسخة لأسرتنا، إذاً، مثلما اختلت تقاليد آلاف البيوت فى مصر التى تغيب منها أفراد حبسوا أو اختفوا أو ــ فى الحال الأفدح ــ استشهدوا. نشعر بهذا الاختلال ــ بغياب الأشياء عن أماكنها الأليفة ــ ونرقب فى نفس الوقت ذلك الذى يحدث فى غزة من قتل وتهجير همجى عبثى لمواطنين (نساهم نحن أيضا فى قتلهم بالغطاء الذى تعطيه تصريحاتنا لإسرائيل وبالمعبر الموصد بين بلدينا)، ثم يصدمنا الذى يحدث فى الموصل من تهجير لأسر مسيحية وتعرية المدينة من وجود مسيحى أصيل، قديم قدم المسيحية نفسها...
عموما، قررت الأسرة إن مافيش عيد، لكن حددنا نقطة التقاء، وهى بيت أخى وزوجته فى المساء لمن وجد نفسه قادرا على الصحبة وراغبا فيها.
وطلع نهار الاثنين، وبدأتُه فى السادسة أحاول الانتهاء من مقال حول غزة لصحيفة سويدية. البلكونة فى الصباح لطيفة رطبة، واليوم فى فَجْره دائما ما يبدو واعدا، مليئا بالإمكانيات والمسارات الكامنة. أسقى الزرع وأرش الماء على الأوراق العريضة داكنة الخَضار وأحمد الله على نعمة البيت والزرع والمية ... ثلاث ساعات فى مطالعة آخر الأخبار، وتتبع الصور التى تتوالى للبيوت والأرض والأطفال قبل أن تضع إسرائيل بصمتها عليهم وبعدها. ثلاث ساعات من التوزع بين محاولة استيعاب التفاصيل، والاستجابة ــ ولو ببوست أو ريتويت أو ترجمة تغريدة أو التوقيع على بيان وتشييره ــ لشريط تفجير الحياة المتسارع أمامى، وبلورة مقال يلزم أن يأخذ شكلا منطقيا حول فكرة واضحة ــ كتابة نص ذى تركيب ومنطق من داخل أحداث متسارعة منطقها الوحيد هو الإبادة، ومقاومة الإبادة.
انتهيت بشكل ما، وقلت أتركه ساعة ثم أعيد قراءته وأرسله من السيارة بعد الزيارة. وقفت وفردت ظهرى وحملت اللابتوب فما أن دخلت به من الشرفة إلا ورن المحمول ولم يفصح عن الطالب وجاءنى صوت واهن متردد: "أهداف؟"
"أيوه؟"
"أهداف؟" مرة أخرى.
هتَفْت: «فوزية؟»
فوزية سلامة، صديقتى الحبيبة وأختى الكبيرة، تصارع المرض منذ سنتين. كنا على اتفاق أن تأتى إلى مصر فى الأسبوع الأخير من هذا الشهر ونقضى بعض الوقت فى بيتها الصغير فى مينا. لكن المرض قسا عليها فى الأسبوعين الماضيين. وأنا أول يوم أستطيع الذهاب إليها كان يوم الثلاثاء .. وقد حجزت التذكرة. سمعت صوتها فانفتحت السماء عن إمكانية أنها تتصل لتقول إنها قادرة على السفر رغم كل شئ، أنها ستأتى ونذهب إلى الساحل فنقضى على الأقل بعض الأيام نتحادث فى هدوء فتواسى كل منا الأخرى، طيب ألحق ألغى تذكرة بكرة يادوب قبل ما ندخل فى الأربع والعشرين ساعة الأخيرة قبل السفر، كل هذا فى الثانية التى هتفْتُ فيها بكلمة: "فوزية؟" استثرت بها فيض بكاء من الهاتف: "لأ، لأ مش فوزية"، كانت عبلة، ابنة فوزية، تخبرنى بأن فوزية قد رحلت وانتهى الأمر.
•••
الطريق إلى القرافة فاضى بالرغم من استعداد عربات الورد الواضح لاستقبال الزبائن. نقف لنشترى ورداً وخوصاً وريحان. الشُريك والقُرَص والفواكه فى شنطة السيارة. ينزل علىّ ذلك السلام الذى يواعدنى حين أقف أمام الشاهد فى مدفننا أفك ربطات الورد والريحان وأرصها على الرخام وحوله. ليس سلاما سعيدا، لكنه راض؛ هنا يوجد اليقين، وأرى مكانى فى السلسلة الكونية. ابنى الأصغر يقف ورائى فيسجل ركن عينى الضوء المنعكس عن قميصه الأبيض. يأتى أحد المقرئين مبكرا فيسلم ويتربع ويبدأ فى القراءة. أكمل رص الزهور ثم أعيد انتعال الحذاء وآخذ مجلسى إلى جانب خالتى الصغرى، خالتى الباقية. المقرئ يقرأ وابنى يظل واقفا مواجها للشاهد ثم أنتبه إلى الرعدة المتكررة فى كتفيه. ابنى الطويل العريض ذو الخمسة والعشرين عاما يبكى أمام قبر جدته ولا يريدنا أن نعرف. أستغرب أنا ما أشعر به، شعور وكأنه نوع من الفخر، وكأن الشاب اجتاز امتحانا أو أثبت نفسه بشكل ما.
بعد فترة يأتى إلى كرسيه مشيحا بوجهه. أضع يدى على كتفه لحظات، وتناوله خالتى قطعة من شُريك الرحمة. يقول لى فى المساء إنه لا يعرف ماذا اعتراه، لا يعرف من أين أتى كل ذلك الفيض، لكنه على يقين من أنه لم يكن ليبكى لولا المقرئ يقرأ إلى جانبه.
•••
فى المستشفى أحمد سيف يجلس على كرسى. أفرح. أول مرة من أسبوعين أراه خارج رقدة السرير. شاحبا بعض الشئ، متورما بعض الشئ، لكنه جالس، يتنفس ويتحدث. ليلى ومُنى حوله، لا تتركانه لحظة، ترعيانه وتحايلانه وتشاكسانه، كل واحدة بطريقتها. نهر الزائرين لا ينضب لحظة، بحب، وبرقة، يطل الشخص ويسأل وقد يقوم بمهمة، ثم يقف خارج العنبر. ليسوا ضيوفا: تلاميذه وأحبابه ومريدوه، الأصدقاء والرفاق. أصدقاء ورفاق أولاده الثلاثة يعالجون قلقهم على أصدقائهم عن طريق تقديم الخدمات لأبيهم. حين نجدنا وحدنا فى الغرفة يقول لى "أخبار غزة إيه؟" هو السؤال اللى سألَتْه سناء حين زرتها، السؤال اللى بيسأله علاء: "أخبار بابا إيه؟ أخبار غزة إيه؟" بنقول لهما أخبار غزة فظيعة ومؤلمة، لكن الفلسطينيين بيقاوموا ومش ساكتين، والعالم يعيد ترتيب نفسه ويصطف وراهم.
•••
فى البيت، أخيرا، أخذت أعيد قراءة المقال وأضبط تربيطاته. لو راجعت الأخبار الآن سأجد ما أضيفه: أسرة أخرى أبيدت عن آخرها، مدرسة دمرت، دليل جديد على إجرام إسرائيل، شخصية عامة جديدة انضمت إلى المدافعين عن الحقوق الفلسطينية .. أقول لن يكون هناك ما يغير فى لب المقال، وقد تأخرت عن موعد التسليم، ولا يمكن لأى نص أن يشهد على كل شئ. أرسل المقال، ويدق جرس المحمول: صديقة تقول إن مجموعة من الشباب فى الحبس معهم تليفون لدقائق معدودة بمناسبة العيد ويريدون منى أن أتصل بهم.
«أنا؟»
«أيوه انت، وبسرعة»
تعطينى الرقم وأتصل. يجيبنى صوتٌ شاب. يرحب بى ويتمنى لى عيدا طيبا ويسأل على صحة «الأستاذ سيف» وكأن هذه مكالمة عادية جدا، وكأننا تحادثنا من قبل عشرات المرات، وكأنه يحادثنى من بيته أو من مكان عمله. أسأله إن كان فى السجن فعلا. يصف لى أين هو، يجيب على تساؤلاتى حول عدد الشباب المحبوس معه، ومحبوسين على ذمة أى قضية وتحقيق واللا محكوم ــ ثم يذكرنى بضيق الوقت ويتطرق إلى ما أراد الحديث عنه فعلا: الشباب المحبوسون يريدون أن يشدوا من أزرى. من داخل سجنهم يريدون أن يشدوا من أزرى. أن يدعمونى. محدثى الشاب يريدنى أن أطمئن أننى أفعل شيئا ذو جدوى. يقول لى نقرأك. وحتى إن لم تتكلمى عنا فأنت تتكلمى لنا. تذكرينا بالأشياء المهمة، تعينينا على أن نظل على الطريق. أنا لا أعرف ماذا أقول. أريد أن أذوب خجلا وأريد أن أحضنه وأربت عليه كما عملت مع ابنى فى الصباح. أريد أن أنتحب وأصرخ أن شبابا كهؤلاء وراء القضبان. أريد أن أصرخ من الشباك فأشتم دولة العواجيز التى تحبس شبابا بهذا الكرم وهذه الروح العالية. أطمئنه أن رسالته قد وصلت، إننى فهمت ما يقولون لى. وأقول إن المستقبل لهم، شاء الكبار أم أبوا. وأقول إنهم، كل المحبوسين ظلم، فى قلوبنا لا يغيبون عنا لحظة. فى رمضان، فى لحظة أذان المغرب، كانت التغريدات "المجد لكل اللى مكانهم ع السفرة دلوقتى فاضى". واليوم، يوم العيد، ظهرت البانرات الضخمة بصور المحبوسين معلقة من سور كوبرى ٦ أكتوبر.
•••
فى المساء يجتمع بعضنا فى بيت أخى وزوجته. الأطفال، أمينة، ذات الثلاث سنوات، وخالد، سنتين ونص، يضفيان البهجة على المكان بالرغم مما نحن ــ نحن والبلد يعنى ــ فيه. وأعود وأعود إلى المكالمة مع الشباب، إلى الشباب يقولون لى نعرف أن الأوضاع سيئة ونطلب منك ألا تحبطى. أقول بصدق إننى تساءلت، كما تساءل غيرى من قبل، حول جدوى الكتابة، لكننى لن أضعنى أمام هذا السؤال بعد اليوم: على كل منا أن يستمر. نقطة.