أوبنهايمر.. وفن تخصيص الموارد - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 2:57 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أوبنهايمر.. وفن تخصيص الموارد

نشر فى : الإثنين 31 يوليه 2023 - 7:20 م | آخر تحديث : الإثنين 31 يوليه 2023 - 7:20 م
على عكس ما يعتقد كثير من صناع السينما فى بلادنا، يتوق معظم رواد مسارح الفن السابع إلى أعمال جادة تحترمهم وتمنحهم عائدا استثماريا حقيقيا على ثمن التذكرة، التى اشتروها لإمتاع أرواحهم وتحدى عقولهم، للخروج من دار العرض بقيمة مضافة وبفكرة أو قيمة راسخة. فيلم «أوبنهايمر» الذى طرح حديثا للمخرج الكبير «كريستوفر نولان»، يتناول سيرة ذاتية لعالم عرف بأنه أب القنبلة النووية. وعلى الرغم من خلو الفيلم لخلطة الجذب الجماهيرية التقليدية، المتمثلة فى الإفراط فى العنف والإثارة والحركة والإضحاك.. فقد حقق حتى كتابة هذه السطور إيرادات عالمية تزيد على 260 مليون دولار، وذلك بعد أيام قليلة من بدء عرضه على الشاشات. ويقدر المتخصصون حجم الإيرادات المطلوبة لبدء تحقيقه لأرباح صافية ما يناهز 400 مليون دولار، وهى قيمة تبدو غير بعيدة المنال.
فيلم أوبنهايمر هو مشروع متكامل، لكن إذا كنت تعتقد بدخوله أنك ستشاهد عملا عن الحرب العالمية أو مأساة ضحايا القنبلة الذرية أو حتى تفاصيل فنية خاصة بصناعة القنابل النووية أو حتى سيرة ذاتية كاملة لأوبنهايمر.. فسوف يخيب أملك. الفيلم يركز على صراع داخلى فى وجدان أبطاله.. منهم من يصارع تناقضاته، ومنهم من يصارع جنون الارتياب ويذهب فى ذلك بعيدا إلى حد إيذاء الآخرين بكل قسوة، حتى تتحقق عدالة السماء ويتجرع من ذات الكأس.. لكن الملفت أن مدى الفيلم كله هو ظلم المجتمع لمبدعيه، وللمختلفين عن سواده الأعظم، وكراهيته الدفينة لإنجازاتهم، وإن كان الظاهر من مؤسسات ذلك المجتمع هو استحسان أعمالهم وتكريمهم فى مختلف المناسبات!.. يسلط العمل الفنى العظيم الضوء على مساوئ «المكارثية» والتفتيش فى نوايا ومعتقدات وتاريخ الآخرين، والحكم عليهم وعلى الوطن بالفشل من خلال استبعادهم والإخفاق دون استثمار كفاءتهم وإبداعهم.. فقط للتنكيل بهم والاستمتاع بنفيهم خارج أو داخل بلادهم.
• • •
انتشرت المكارثية أو «الخوف الأحمر» فى المجتمع الأمريكى على فترات تاريخية فى موجتين كبيرتين. لكن الموجة التى اعتنى بها الفيلم كانت فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، التى رغم خروج الولايات المتحدة منها منتصرة مع حلفائها، فقد سطرت نهاية الحرب بداية حرب باردة مع المعسكر الشيوعى (الأحمر) بقيادة الاتحاد السوفيتى، وقد أشعل تلك الحرب سباق التسلح النووى الذى كان صاحبنا «أوبنهايمر» أول آبائه المؤسسين.
فى شهر فبراير من العام 1950 أعلن عضو مجلس الشيوخ الأمريكى عن ولاية وينكسون «جوزيف مكارثى» أن لديه قائمة تضم 205 موظفين يعملون فى وزارة الخارجية الأمريكية ويشتبه بأنهم شيوعيون. وعقب ذلك انطلقت فى الولايات المتحدة حملة مطاردة شاملة وغير مسبوقة فى القرن العشرين، أدت إلى اعتقال آلاف الشيوعيين أو الذين يشك بأنهم يضمرون تعاطفا مع الشيوعية. وقد جرى تقديم كل هؤلاء إلى محاكمات بتهمة محاولة الإطاحة بالحكم بالقوة أو العنف.
طوال خمسينيات القرن الماضى، تعرض العديد من الأمريكيين فى مختلف مجالات العمل والإبداع إلى الملاحقة والتضييق بسبب أفكارهم السياسية أو بفعل الوشاية المغرضة. من بين من تم ملاحقتهم عالم النفس الشهير «ليون كامين» والذى أصبح لاحقا أحد أبرز علماء النفس فى الولايات المتحدة. فقد تم استدعاء «كامين» فى عام 1953 للمثول أمام هيئة محلفين فى ولاية «بوسطن» الأمريكية، وطلبت اللجنة منه الكشف عن أسماء الشيوعيين فى الولاية!. لم يكن الشيوعيون وحدهم ضحايا حملة «مكارثى» بل إن كثيرا من مناهضى الحملة لم يسلموا من أذاها، ومنهم الاقتصادى «جوستاف باباناك» أحد رواد اقتصاديات التنمية. فرت أسرة «باباناك» من أوروبا (مثل أسرة ليون كامين) مع تصاعد المد الفاشى فى أوروبا الشرقية فى أوائل القرن العشرين. كان «باباناك» يتمتع بحماية قانونية ضد العزل مثله فى ذلك مثل 95% من موظفى الخارجية الأمريكية، كما أنه يعد من أبطال الحرب العالمية. قال «مكارثى» وقتها إن وزارة الخارجية مليئة بالشيوعيين وبعديمى الكفاءة وعلينا اقتلاعهم منها. من أجل ذلك ابتكر «مكارثى» وسيلة أخرى للتخلص من «باباناك» ومن هم مثله من خلال حل الوكالة التى يعملون بها، وتأسيس وكالة جديدة وظفت 85% من موظفى الوكالة القديمة! وقد جرى استبعاد من وصفوهم بعديمى الكفاءة والشيوعيين وكان منهم «باباناك» بكل تأكيد، الذى اضطر إلى مغادرة الولايات المتحدة بعد أن بات فى عداد من لا يحق لهم العمل.
• • •
كان اهتمام «نولان» طوال فيلم «أبنهايمر» بمحاكمتين تدور الأحداث كلها فى الخلفية منهما. المحاكمة الأولى لبطل الحرب العالمية الثانية الذى تولى إنهاءها باختراعه القنبلة النووية، وكان الغرض منها التفتيش فى تاريخه المتعاطف مع الشيوعية، والتشكيك فى ولائه للولايات المتحدة، بحجة اتخاذ قرار بشأن تجديد تصريحه الأمنى من عدمه. والمحاكمة الثانية هى نوع آخر من التفتيش يقوم به البرلمان الأمريكى بشكل روتينى قبل الموافقة على تعيين الوزراء (سكرتارية الرئيس فى النظام الرئاسى الأمريكى) وكان المرشح الخاضع للتدقيق هو «لويس ستراوس» رئيس لجنة الطاقة الذرية السابق، والمحرك المستتر لمحاكمة أبونهايمر التى سبقت الإشارة إليها.
كلا المحاكمتين لا تخضعان لأى نظام قضائى، ومن ثم لا مجال فيهما لاستخدام المفتش عنه للحقوق القانونية المعتادة فى المحاكمات. فلا محامون يمكنهم الاطلاع على أصول الوثائق، ولا حق فى معرفة مسبقة بالشهود والتدخل فى شهاداتهم بأساليب الطعن المعروفة.. وظاهر الأمر أن أيا من «أوبنهايمر» أو غريمه المستتر لا يخضعان لمساءلة قضائية، ولا يترتب على عمل اللجان المحققة معهما أى عقوبة مانعة للحريات. لكن واقع الأمر أن العقوبة التى تفرضها تلك اللجان الجائرة أكبر كثيرا من عقوبات المحاكمة أمام القاضى الطبيعى؛ فقرار اللجنة يترتب عليه حكم بالحرمان من الترشح الحالى أو المستقبلى لوظيفة عامة، وحكم بالإهانة والإذلال أمام المجتمع، والأخطر من كل ذلك هو الحكم على الدولة كلها بالحرمان من كفاءة من يتم التدقيق فى أمره والتفتيش المتعسف فى تاريخه.
وإذا كان «ستراوس» قد تحققت معه العدالة الإلهية من خلال قرار لجنة مجلس الشيوخ برفض ترشحه للمنصب الوزارى، نكالا له على ما قدمه من تلاعب باللجنة المانحة للتصريح الأمنى لأوبنهايمر، والتى حرمته من تجديده كنتيجة جائرة لمساءلته، فإن الطابع الأمنى الانتقامى ظل ماثلا فى قرار استبعاده، والذى قد لا تتحقق معه العدالة بشكلها المثالى فى حالات أخرى، حرم خلالها مرشح وزارى من منصبه نتيجة شبهة أحقاد تاريخية. وعلى كل حال يؤكد صانع الفيلم من خلال الحوارات على أن لجان مجلس الشيوخ ليست كلجان المكارثية وأن حالات رفض الترشح نادرة الحدوث.
• • •
الفيلم يغص بأسماء لشخصيات يعتقد بعض النقاد بأنهم قد تسببوا فى إرباك المشاهد، لكن الراجح عندى أن غالبية الأسماء المذكورة فى الفيلم والتى لم يكن لها دور جوهرى فيه، وقعت ضحايا للتفتيش والإقصاء «المكارثى» الكارثى والذى تسبب فى نفى وانتحار البعض، وفى حصار نفسى وأمنى رهيب، تجده طوال الفيلم مطبقا على حركة وأعمال شخوصه، حتى أن أحد هؤلاء يقول لأوبنهايمر الذى كان يحاول الاستعانة به فى أخطر مشروع فى تاريخ الولايات المتحدة وربما العالم، أنه لن يتم قبوله «أمنيا» وأنه يخشى أن يؤثر هذا الرفض الأمنى على مستقبله!. كذلك أعاقت التصاريح الأمنية انتقال الأبطال طوال الفيلم، وهو انتقال ضرورى جدا لإتمام مشروع إنتاج السلاح النووى.
يظن البعض أن اقتصاد السوق الحر يتلخص فى حرية تدفق السلع ورءوس الأموال داخل الأسواق بغير قيود تذكر. ولكن الواقع يتعدى ذلك إلى حرية الإبداع، والاعتماد على قوى السوق لتحسين كفاءة تخصيص الموارد، كل الموارد وليس فقط الموارد المادية والطبيعية، بل فى المقدمة من ذلك الموارد البشرية. القيود التى تفرض على الموارد البشرية كى تتحرك وتبدع كثيرة ومشوهة لآليات عمل الأسواق الحرة. القيود والاشتراطات والتعيينات الأمنية تسبب تشوهات فى آلية الفرز الطبيعية الحرة القائمة على المنافسة العادلة والكفاءة. المنتج الوحيد لذلك التشوه هو تخصيص فاشل للموارد البشرية، ومن ثم تراجع شامل فى الأداء السياسى والاقتصادى والعلمى والأكاديمى والمجتمعى.
حتى أكبر اقتصاد فى العالم، الدولة التى انتصرت فى الحرب العالمية وتتصدر المشهد العلمى والاقتصادى والعسكرى.. لم تسلم من آفات التفتيش والتقييد، وقد دفعت ثمنه غاليا. لكن المؤسسات القوية لتلك الدولة كانت قادرة على تخطى المحنة المكارثية، ومن مخرجات تلك المؤسسات كان الفكر الإبداعى الحر للمخرج «كريستوفر نولان» الذى لم يتحين فرصة إنتاج فيلم عن رائد القنبلة الذرية لتحويله إلى ملحمة عسكرية، وآثر دون ذلك البحث عن معضلات أهم وأكبر، يدق بها ناقوس الخطر فى مختلف الدول التى تمر بأفكار «مكارثية» الطابع. يذكر «نولان» مواطنيه الأمريكيين بأنهم لن يكونوا معقلا للحريات والحقوق إذا لم يعترفوا بخطايا تلك المرحلة المتذرعة بالخطر الخارجى، والتى كانت خطرا أعظم على الولايات المتحدة والعالم مصدره الداخل الأمريكى نفسه.
مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات