فى صيف هذا العام، برزت جليا ظاهرة آخذة فى التصاعد منذ فترة زمنية غير قليلة، وهى تضخم الفوارق الطبقية، والعمل على تعميقها فى كل ربوع المجتمع المصرى، نرى أن فئة من المجتمع تعمل على تخصيص المخصوص، وتمييز المتميّز، وتحاول عزل فئات قليلة من المجتمع عن غالبية الفئات الأخرى، بدعوى «مزيد من الخصوصية والأمان»، هذا هو الشعار الذى ترفعه أغلب شركات الإسكان والتطوير العمرانى الخاصة، وتبعتهم الدولة فى نفس المنهاج للتسويق عن مشاريعها الإعمارية والسياحية!
فى شهر يوليو، أعلنت إحدى الشركات الشهيرة للإسكان عن حفلات دعائية كبيرة للترويج عن إنشاء منطقة جديدة داخل مشروع لها كبير بدأته منذ أكثر من عشر سنوات، دعت فيها فنانين عالميين من أمثال الأُوبرالى الإيطالى العالمى Andrea Bocelli، مع فنانين عرب كبار آخرين، وقد حضر هذه الاحتفالات التى استمرت تقريبا طوال الشهر بعض الوزراء الحاليين والسابقين، وكبار رجال الدولة والأعمال، والشخصيات العامة الشهيرة والفنانين.
علما بأن هذه الشركة كانت قد وعدت فى بداية إنشاء مشروعها بأن هذه المدينة أو هذا الكومباوند سوف يتميز بأعلى مواصفات الخصوصية والأمان والرقى، وبعد أن اشترى منها الآلاف من الناس مُصدقين لهذه الدعاية فوجئوا بأنها تخصص جزءا من هذه المدينة تحيطه بأسوار عالية، وله مواصفات أعلى من «الخصوصية»، ومن «الأمان»، ومن الخدمات، ومن الجوانب الفنية والجمالية، هذه الدعوة جعلت ملاك المراحل السابقة يشعرون فجأة بأنهم أصبحوا درجة ثانية قى هذه المدينة العقارية!
وفى شهر أغسطس، فعلت الدولة نفس الشيء للترويج لمشروع لها فى الساحل الشمالى، فدعت فنانين عالميين منهم مغنى الراب الأمريكى Russ، والمغنية الأمريكية Jennifer Lopez، ومن العرب الهضبة والجبل والتل، وما إلى ذلك من ألقاب وعجائب، لتُحيى عدة حفلات فى المدينة الساحلية الجديدة، وبالطبع كان الدفع، من القطاعين العام والخاص، بالعملة الصعبة لكل النجوم العالميين، مما كلف ملايين الدولارات فى بلد يئِن من أزمات اقتصادية ويعانى من تصاعد معدلات الفقر!
***
هذه الظاهرة ذكرتنى بالعمل الموسوعى للفيلسوف الفرنسى مونتسكيو فى عصر التنوير، والموسوم «عن روح القوانين» (1748) De l’Esprit des lois، وفى الفصل الأول من الباب السابع فى الجزء الأول، بعنوان Du Luxe المُعرّبة بالمفردة «اللوكس»، فسّر مونتسكيو – أحد دعاة الحرية والعدالة والأخوة ــ هذه الظاهرة.
ولكن قبل أن نتطرق لتفسير مونتسكيو، أود أن أستعرض إشكالية ترجمة كلمة Le Luxe إلى اللغة العربية، فقد وقعت حيرتى بين ثلاث كلمات: «الرفاهية» و«الكمالى» (مفرد الكماليات)، أما الثالثة فكانت «الترف»، وهى ما وقع عليها الاختيار، لأن مدلولاتها تنطبق على حالتنا، ففى البحث فى المعاجم وجدنا المدلولات الآتية:
ــ عاش فى تَرف أى عاش فى رغد، وسِعة عيش وتَنعّم.
ــ إشباع حاجة غير ضرورية.
ــ تَرّفته النعمة أى أطغَته وأفسدته، أو تَرّفه المال.
هذه المضامين الثلاثة هى بالضبط ما تحدث عنها مونتسكيو فى تعريفه لـ«لوكس» أو «الترف»، حيث يرى أن هناك علاقة مطردة بين الترف من جهة وبين عدم وجود عدالة اجتماعية من جهة أخرى، أى أنه كلما زادت مظاهر الترف والبذخ والرفاهية فى المجتمع، كلما تباعدت الطبقات بعضها عن بعض، وظهرت الفوارق بينها بالقدر الذى تزداد فيه الكماليات، وعليه تزداد فيه علامات عدم المساواة بين المواطنين، وذلك يرجع، من وجهة نظره، إلى سوء فى توزيع ثروات المجتمع.
يعتقد مونتسكيو بأن الثروات فى الدولة عندما تكون مقسمة بالتساوى بين المواطنين فلا مكان للترف ولا للبذخ، وبالتالى لا وجود للفقر، لأن الترف والبذخ إذا تحققا لصالح فرد أو فئة فإنهما يأتيان خصما من حساب ومجهودات الآخرين، كما كان يؤمن بأن جمهورية أفلاطون التى كان ينشد فيها المدينة الفاضلة (L’Utopie)، هى مدينة واقعية، وأنها ليست مدينة خيالية، ويمكن تحقيقها طالما أنها مُقامة على المنطق والعقل وعلى البساطة أيضا، فهى مدينة سالمة تنحصر فيها رغبات الناس.
لقد كانت جمهورية أفلاطون فيها أربعة أنواع من الطبقات، وكانت تعتمد أساسا على الطبقة الأولى التى يحصل فيها المواطنون على كفايتهم الحياتية فقط، وبهذا ينعدم فيها الفقر، أما الحالة الثانية يحصل فيها الفرد على ضعف الأول، والثالثة على ثلاثة أضعاف الأول، والرابعة على أربع أضعاف الأول، وهكذا تتوالى المتوالية العددية، 1، 3، 7، 15، وعليه، عندما يحصل الفرد على أكثر من احتياحاته الأساسية فإن تقييمه الطبقى يُقاس بقَدر ما اكتسبه من حقوق الآخرين.
هذه هى جمهورية أفلاطون التى قسّم فيها الفوارق الطبقية إلى أربعة مستويات فقط، أما فى جمهوريتنا فيبدو أن المتوالية العددية قد فاقت الأربعة أضعاف، وربما وصلت المتوالية العددية فيها من 15 إلى 31، 63، 127 فقد وصلت فيها فئة قليلة إلى حد «التخمة»!
***
هذه النظرية الفلسفية لمونتسكيو التى سعى بها لتحقيق المساواة بين الناس، وتطبيق العدالة فى المجتمعات، جاء بها نبى الإسلام من قبله باثنى عشر قرنا من الزمان، واضحة فى الدعوة لتدوير الأموال وعدم اكتنازها، كما فى قول الله تعالى: «كى لا يكون دولة بين الأغنياء منكم» «الحشر ــ 7»، فهذه دعوة من الله لتقسيم أموال الأمة حسب الأولويات، ولعدم الاستحواذ عليها، حتى لا يستقوى الأغنياء وأصحاب السلطان على الفقراء، وذلك مراعاة لحقوق الضعاف وأهل الحاجات وحمايتهم من بطش أولى القوى.
ومن ناحية أخرى، لم تكن فقط هجرة النبى عليه الصلاة والسلام هجرة من مكان لمكان آخر يأويه، ولكنها كانت هجرة من حالة فكرية واجتماعية فيها عبودية وظلم الإنسان لأخيه الإنسان، إلى حالة فكرية واجتماعية أخرى، يحقق فيها تحرير الإنسان من عبودية أخيه الإنسان، فتصبح العبودية لله وحده، كما يحقق فيها عدالة اجتماعية فرضها الله سبحانه بقوله: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا« (التوبة ــ 103)، هكذا كانت هجرته من مكة (المدينة الظالمة أهلها فى ذلك الوقت) سعيا إلى مدينة فاضلة يحقق فيها العدالة والحرية، فكانت هى «المدينة المنورة» التى أسس فيها الدولة المدنية حيث يتعايش فيها كل الأديان والمعتقدات، شرط أن يسودها العدل والرحمة وحرية الاعتقاد.
وقد أبان دعوة العدل هذه من بعد النبى عليه السلام الصحابى أبو ذر الغفارى، فى أقواله:
ــ «إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر: خذنى معك».
ــ «إنى لأعَرَف بالناس من البيطار بالدواب (أى لديّ من الفراسة ما يمكننى من معرفة أحوال الناس مثلما يعرف الطبيب البطرى أحوال البهائم التى لا تستطيع التعبير عن أحوالها)، أما خيارهم فالزاهدون، وأما شرارهم فمن أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه».
ــ «انظروا إلى الدنيا نظرة الزاهدين فيها، فإنها عن قليل تزيل الساكن، وتفجع المترف فلا تغرنكم».
ــ و«ذو الدرهمين أشد حسابًا من ذى الدرهم».
ونختم بالتساؤل عن قول الإمام عليّ رضى الله عنه: «خالطوا الناس مخالطة إن متم بكوا عليكم وإن غبتم حنّوا إليكم»، فأين تكون مخالطة الناس فى هذه المدن والكومباوندات المغلقة والمحاطة بالأسوار؟!
أستاذ الأدب واللغويات بقسم اللغة الفرنسية بجامعة الملك سعود بالرياض