نشر موقع 180 مقالًا للكاتب عبدالحليم حمود، تحدث فيه عن الشعبوية باعتبارها التحدى الأعظم الذى يواجه ديمقراطية القرن الواحد والعشرين. تناول الكاتب أيضًا مواطن ضعف الديمقراطيات الليبرالية التى استطاعت الشعبوية استغلالها ونفذت منها للمجتمعات بل وتوغلت فيها، حتى أضحت تحولًا عميقًا وليس مجرد حدث عرضى أو طارئ… نعرض من المقال ما يلى:
لا تعد الشعبوية فى القرن الحادى والعشرين انحرافًا طارئًا فى مسار السياسة الديمقراطية، بل تحولًا عميقًا فى مفهوم القيادة، ووظيفة الخطاب، وتمثيل الهوية الجماعية. لقد تراجعت أهمية البرنامج السياسى المتماسك، لمصلحة قدرة الزعيم على التعبير الفورى عن الغضب العام، وكأن العاطفة أصبحت العملة الوحيدة المتداولة فى السوق الانتخابية.
من دونالد ترامب فى الولايات المتحدة، الذى صعد على موجة الاحتقان العنصرى والاقتصادى، إلى فيكتور أوربان فى المجر، الذى بنى زعامته على الخوف من الأشخاص المهاجرين والترويج لـ«القيم المسيحية»، ومن ماتيو سالفينى وجورجيا ميلونى فى إيطاليا، حيث استخدم شعار «الإيطالى أولا» لاستنهاض الحنين إلى أمة متخيلة، إلى بوريس جونسون فى بريطانيا، الذى صاغ خطابه أثناء «البريكست» بلغة التحدى القومى والتبسيط المبالغ به؛ تتجلى ملامح الزعامة الشعبوية بوضوح، وإن اختلفت الأقنعة المحلية.
فى فرنسا، تبنى مارين لوبن سرديتها على استثنائية الهوية الفرنسية، وتقدم نفسها كصوت «منسى» يدافع عن «الفرنسى الحقيقى» ضد النخب الباريسية، وضد ما تعتبره انحلالًا أوروبيًا. وفى إسبانيا، برز حزب «فوكس» بخطاب يرتكز على الدفاع عن الأمة ضد التعددية الثقافية، وتصاغ مقولاته فى مناخ من النوستالجيا السياسية نحو زمن مركزى وذكورى وسلطوى.
الجامع بين هذه التجارب ليس المضمون، بل الآلية. الزعيم الشعبوى لا ينتج داخل المؤسسات، بل خارجها، فى المجال الشعورى المضطرب للناخبين. هو استجابة لعطب جماعى فى التمثيل، لفراغ رمزى لم تملأه الأحزاب الكلاسيكية. صعوده لا يعكس نضجا ديمقراطيا، بل أزمة فى معنى التمثيل نفسه.
وبينما تتباهى الديمقراطيات الليبرالية بديناميكياتها المؤسسية، تكشف الشعبوية هشاشة هذه الديناميكيات حين تعجز عن استيعاب العواطف الجارفة. فالجمهور لا يصوت للبرنامج بقدر ما يختبر لحظة الانتماء النفسى، عبر زعيم يتكلم «كما نتكلم»، ويعبر عما نخجل من قوله. يصرخ نيابة عن الخائف، ويعد بما لا يمكن تحقيقه، لأن وظيفته ليست الإصلاح، بل الإشباع الفورى لغريزة الإحباط.
ما يكشفه التأمل العميق فى الظاهرة الشعبوية هو أننا لا نواجه مجرد نمط من أنماط الخطاب السياسى، بل طقسًا اجتماعيًا مكتمل البنية. فالمجتمعات، حين تفقد رموزها التأسيسية ــ سواء كانت دينية أو قومية أو نقابية ــ تسعى بشكل لا واعٍ إلى تعويض ذلك الفقد عبر استحداث رمز بديل، غالبًا ما يتجسد فى شخص الزعيم. هذا الزعيم لا ينتخب فحسب، بل يستدعى ككائن فاصل بين مرحلة ومرحلة، كأنه يجسد مشاعر الجماعة المكسورة، ويعيد تقديمها بلغة الخلاص والانفعال. إنه يؤدى وظيفة المقدس، لا بوصفه نبيًا، بل باعتباره تعبيرًا عن حاجة الجماعة إلى وحدة، حتى ولو كانت تلك الوحدة مبنية على الخوف أو الكراهية.
من جهة أخرى، يعبر صعود هذا النموذج عن تحول خفى فى العلاقة بين الخطاب والسلطة. لم يعد التأثير السياسى قائمًا على البرنامج، بل على القدرة على تفكيك المعايير التى تقوم عليها الحقيقة ذاتها. الزعيم لا يقدم معرفة بديلة، بل ينسف المرجعيات التى تضبط إنتاج المعرفة. إنه يشكك بكل ما يبدو بديهيًا: من الأرقام إلى الخبراء، من القانون إلى الصحافة، ويحول الشك إلى يقين جماعى. بهذا الشكل، يصبح الخطاب الشعبوى ليس مجرد تعبير عن الغضب، بل أداة لإعادة هندسة ما يعتبر «واقعًا» فى الوعى العام.
ما يبدو كأزمة سياسية سطحية، هو فى جوهره طقس عبور وجودى، تعيد فيه المجتمعات تعريف ذاتها تحت ضغط الفقد والانكسار. وحين لا يعود هناك معنى مشترك تستند إليه الجماعة، فإن الزعيم العاطفى يملأ الفراغ، لا كحل، بل كأثر. أثر لانهيار سابق لم يعالج، ولعطش هائل إلى هوية واضحة وسط ضجيج التحولات. فى مثل هذا المناخ، تصبح الشعبوية أكثر من أيديولوجيا؛ إنها شكل من أشكال البقاء النفسى، البدائى والناجع.