فى ذكرى رحيله السنوية، شهد الأسبوع الماضى عفارا وغبارا حول نجيب محفوظ وإبداعه الخالد. حلقة «توك شو» تثير جدالا قديما حول قلادة النيل التى مُنحها محفوظ عقب حصوله على نوبل 88، وهجوم رخيص من بعض المدعين الباحثين عن الشهرة تهاجم محفوظ وتصف إبداعه بـ«الركيك» و«السينمائى» و«عديم القيمة»، أو يظهر على السوشيال ميديا من يدعى أن «الحرافيش» «مسلوقة»! وأنها لو لم تكن لنجيب محفوظ لما مرت مرور الكرام.. وهكذا على تلك الشاكلة من التنظيرات الجوفاء والأحكام اليقينية المبعثرة هنا أو هناك عن نجيب محفوظ وإبداعه.
فى النهاية نجيب محفوظ تراث إنسانى خالد ملك لكل من يقرأه، وهو ليس مقدسا ولن يكون، وهناك فعلا من لا يستسيغ كتابة محفوظ أو تأبت ذائقته على استقباله، وهذه حرية مطلقة لأصحابها لا يمارى فيها أحد ولا يستطيع.
لكن الغريب والمدهش حقا هو تلك الجرأة والثقة واليقين المطلق لدى البعض ممن يتحدثون بجهل عن الرجل وإبداعه. فى الغالب هم أبناء ثقافة السوشيال ميديا القائمة على الخفة والسذاجة والنقل المتسرع غير الموثق، ثقافة أسميها «ثقافة السبارس»، قوامها الخطف والتقاط القشور والادعاء الشكلى، ثقافة التلفيق والخلط والخزعبلات التى لا علاقة لها بفكرة عميقة أو بحث رصين أو توثيق علمى أو قراءة منهجية.
ثقافة تتكئ بكل عنف على الجماهيرية الزائفة والأعداد الخزعبلية المتسترة وراء «التريندات» و«الفولورز» وما شابه ذلك.. وفى وسط هذا الركام الخانق، لا يوجد واحد من هؤلاء امتلك الحد الأدنى من الفهم السليم للغة التى يقرأ بها أو يكتب بها أو تأسس وعيه ونمت ذائقته بشكل طبيعى بموازاة قراءة نقدية عميقة (امتحان إملاء متواضع مع اختبار ثقافة عامة حقيقى كفيلان بكشف المستور).
وهكذا تجد طوائف من القراء (أو هكذا يدعون!) قراء درجة رابعة أو خامسة رديئة، تجد منهم ــ بكل ثقة أكرر بكل ثقة ــ من يحكم على محفوظ ورواياته الكبرى! أو يحكم على عمل مثل «الحرافيش» بكلام متهافت رخيص، كاشف وفاضح لجهل معيب، والأدهى أنهم قرروا أن يتصدوا لمن يحاول أن يكشف جهلهم أو يدافع عن القيمة أو يجدد التذكير بسيرة وإبداع محفوظ تحت لافتات «إنهم يقدسون محفوظ» أو «إنهم يتعبدون فى محرابه» إلخ تلك المقولات التى يراد بها باطل مقرف!
بالنسبة لى ولكثيرين فى مصر والعالم كله، نجيب محفوظ كاتب عظيم، لا لأجل نوبل، ولا لأجل أى شىء سوى كتابته وقيمة إبداعه، والتى توحى للقراءة الأولى بالقليل ــ ربما للبعض ــ بينما التركيز فى القراءة يحيلك إلى مستويات عديدة لفهم النص، هذه المستويات فى قراءة محفوظ وإبداعه لم تتكشف حتى هذه اللحظة.
نجيب محفوظ قيمة حقيقية؛ ولأنه قيمة فمن يقرأه بإمعان ووعى يعلم أنه لن يقدسه وأن أبرز ما فيه يحض على الإبداع والابتكار والتجاوز شريطة العمل على توفر الشروط التى تؤدى إلى هذا التجاوز!
ومن يقرأ نجيب محفوظ بِعلم لن يقدسه، لكن سيعرف قيمته وقيمة منجزه، ولهذا ينبغى أن يتوفر لمن يقرأه استعداد وإدراك سليم، وبغير ذلك فلن يتأتى له اكتشاف جوانب العظمة المحفوظية الخالدة.
كانوا يقولون فى الأمثال إن العيب إذا صدر من أهل العيب فليس عيبا! لكن الحقيقة أن العيب صار شعار حياة فى أوساط أصيبت بالعمى المعرفى آفتها الجهل ومرضها الكبر، تأبى أن تبذل مجهودا بسيطا للحكم على الأشياء كما هى عليه لا كما يريدون هم أن يصموها به.
العيب الحقيقى ليس فى أن تعبر عن رأيك إنما فى أن تكون عاجزا عن الدفاع عنه.
العيب أن تعلن رأيا تحاول أن تفرضه فرضا على الناس بحيثيات ناقصة، لا يصمد لأى تحليل عقلى ومنطقى ومنهجى وفق أصوله.
العيب هو الادعاء بامتلاك القدرة على إطلاق الرأى والحكم على الشىء من دون وعى ولا تحضر ولا ثقافة، ولا فهم..
العيب هو الظن بأن المخالفة لذاتها كفيلة بإعطائك القيمة.. وأن إنكار القيمة قيمة!
ورحم الله محفوظ وأدام علينا نعمة قراءته واكتشافه دوما.