كانا على معرفة طويلة، ربما تقاطعت طرقهما وأحيانا بعدت ولكنهما بقيا يطلقان على طبيعة العلاقة التى تجمعهما «الصداقة الحميمة» وهى ذات تفسيرات عدة ربما. بعدت هى وأخذتها ظروف مختلفة وفى يوم أرسلت له رسالة قصيرة على الواتساب والفايبر وغيرها من الوسائل السريعة، اختصرت العبارة «لقد تزوجت» ابتسم هو غير مصدق الخبر السعيد فقد كان هو مزواجا وكانت هى العكس تماما ودائما ما كانت تردد عليه أن الزواج مؤسسة فاشلة وهو صراع على من يتحكم فى الآخر أو يفرض رأيا أو سيطرة.
***
بعد ذلك انقطع التواصل بينهما وبقى «يتشمم» أخبارها عبر الأصدقاء المشتركين فعرف بعضا من أيامها ومدنها وقليلا عن كيف تسير أحوال تلك المؤسسة التى لطالما تمردت هى عليها فيما هو لا يستطيع أن يعيش بدونها، وقال لها عندما احتدم النقاش ذات مرة حول الزواج، أن الإنسان بحاجة إلى الرفقة وألا يبقى وحيدا.. هو يخاف الوحدة حد الموت فتتناوبه الكوابيس والاكتئاب الذى يفضل هو تسميته بالملل من الروتين فيقول ضاحكا «من البيت للمدرسة»! فيما هو مهندس معمارى مهم فى بلد كما كل البلاد لا يتوق إلى الإبداع حتى فى المعمار بل يعتمد على الصور النمطية للعمارات والبيوت وكان هو يقول لو اعتمدنا لونا معماريا واحدا لكان ذلك جميلا مثل تونس على سبيل المثال أما أن نعتمد نفس النماذج ثم نشوهها بتلك الألوان والأعمدة وخليط من الهندسة الرومانية القديمة على المغربية أو حتى الإسلامية.. وكان بعضهم أو «المتفزلكون» منهم والمحاولون أن يستعرضوا عضلات الثقافة المسطحة يرددون نريد نموذج حسن فتحى ذاك الذى بنى أحسن البيوت للفقراء بطراز بسيط ومن المواد المتوفرة فى البيئة حتى أصبح يدرس فى الجامعات المتقدمة. هو كان كثير الشكوى من جهل العامة وخاصة محدثى النعمة من قلة الذوق والفهم وثقافة الترقيع والتقليد الأعمى.. أنماط مكررة بألوان قبيحة وتفاصيل غير خاصة.. هو الذى يتصور أن البيت ليس فقط منزل بل سكن لأى من المساكنة فى المكان كما يردد ويعنى أنه أكثر من مكان حجرى يغطى أو يستر أصحابه فى مكان مشترك.
***
مضت سنين طويلة قبل أن تعود هى إلى الوطن لتسمع أن زوجته الرابعة أو الخامسة وهى التى تردد لقد تعبت من العد فكلما التقيت بأحد بالصدفة فى مكان بعيد لم تسمع من أخبار ذاك الصديق سوى زواج جديد وكان أصدقاؤه يرددون «يا شيخة الحمد لله أنه لم يخلف من كل هذه الزيجات».. عند عودتها سمعت أن زوجته الأخيرة قد توفت وهى كانت أصلا ضعيفة جدا ولا تقوى على الحياة وأنه بعدها قد أصيب بالإحباط والقنوط وانعزل عن كل الأصدقاء ولم يعد يهوى ذاك العشاء من كل أسبوع؛ حيث تتحلق الشلة القديمة بعد أن شاب الشعر وتضخمت الكروش، يعودوا إما للحديث عن هموم المصاريف المدرسية والتذمر من العمل الكثير والمدخول الذى يتبخر سريعا بفعل الغلاء وكثرة المتطلبات الأسرية.. ولكن وبعد بعض الكئوس وكثير من الأكل يتحولوا للذكريات، يفتحوا الدفاتر القديمة يضحكوا كما الأطفال أو كما كانوا شبابا مراهقين حتى بعد سنين المراهقة. عن نزوات وعلاقات قبل الزواج وبعده عن سفريات عمل وفرت فرصا للالتقاء بنساء مختلفات أو هكذا تصوروا ليكسروا ملل الحياة الزوجية ثم يعودوا لحضن الزوجة! وتبقى تلك المرأة متصورة أنه كان حبا حقيقيا رغم أنهم جميعا يعترفون لبعضهم البعض أنه الملل والروتين وبعض الشيطنة المتبقية من تلك السنين البعيدة.
***
عندما ذهبت لعزائه وجدته رغم مسحة الكآبة الواضحة سعيدا برؤيتها وبدأ حديثا لم يكن له نهاية حتى استأذنته هى لأنها على موعد.. لم يتركها بعد تلك اللحظة ربما لم يمنعه من أن يكون ظلها سوى انشغالها بعملها وكثير من العمل الاجتماعى والصداقات الواسعة.. إلخ، لم يكن ييأس أبدا من أن يدعوها على وجبة عشاء وإن اعتذرت منه لارتباطات مسبقة.. وفى ذات غداء وكانت قد توقعت كل شىء إلا هذا السؤال «هل تتزوجينى» ضحكت حتى شرقت من الضحك وهو يتطلع لها بكثير من الاستغراب، فما المضحك فى مثل هذا الطلب الذى تتمناه الكثير من النساء واللاتى هن أصغر منها بكثير.. ربما قال لنفسه ما لها تتصور أنها لا تزال تلك الفتاة الصغيرة ذات الجمال الخاص؟ لم تستمر جلستهم فى ذاك المساء طويلا هو أصيب بشىء من خيبة الأمل وهى كانت غير مصدقة العرض الذى يتصور هو أنه مغرٍ.
***
لم تمر أيام حتى باح لها كما الطفل بأنه لا يرغب فى شىء من الزواج سوى تلك اللحظات الحميمية المشتركة وكان أول من سمعته يقول إنه يهوى وشوشة الوسادة فى نهاية يوم متعب وأن كل ما يطلبه منها هو تلك اللحظات التى يهويان فيها إلى السرير بعد يوم طويل ليفشى كل منهما بمشاكل اليوم ويتخلص من كل التعب ثم يغفو على تلك الوشوشات.. حتى هذا العرض لم تفهمه هى وقررا الافتراق وما هى سوى أيام حتى سمعت بخبر ارتباطه وزواجه السريع وفى حفلة الزواج التى جمعت الأصدقاء الأكثر قربا نظر لها وردد لعلك يوما تفهمين معنى همس المخدة أو وشوشتها!.