بعد أن تحدثت فى مقالتى السابقة «لماذا العلمانية ليست الحل؟» عن العلاقة المعقدة بين الدين والدولة حتى فى المجتمعات غير الإسلامية والتى قطعت شوطا كبيرا على مؤشر الديموقراطية، أتناول فى هذه المقالة مصير الدين وموقعه من سلطة الدولة فى المجتمعات الغربية التى قطعت معظمها شوطا كبيرا فى عملية الديموقراطية والتعددية وكذلك فى المجتمعات غير الغربية المتأرجحة بين الديموقراطية والديكتاتورية.
الفهم السائد فى معظم الكتابات العربية تأثرا بنظيراتها الغربية، أن صلح «ويستفاليا» والذى أرسى مبادئ الدولة القومية فى أوروبا الغربية، قد قطع العلاقة بين الدولة والدين ليؤسس بديلا عن ذلك عالمين منفصلين، أحدهما العالم العام حيث السلطة المطلقة للدولة، أما الآخر فهو العالم الخاص والذى يمكن للدين أن يبقى بداخله دون أن يجد أى طريقة للتواصل مع العالم العام.
الحقيقة أن هذا الفهم يحتاج إلى مراجعة، وقد قامت بالفعل عدة كتابات غربية بإعادة قراءة صلح ويستفاليا لتجد أن الصلح بالفعل قد أنشأ الدولة القومية ولكنه فى الواقع لم يؤسس بالضرورة ذلك الفصل المتصور بين العام العلمانى والخاص الدينى، بل أنه فى الواقع فوض الدولة حق «أدينة» سكانها بحسب تفضيلاتها لهذا الدين. أى أن الصلح قد أعطى لكل حاكم الحق فى اختيار دين دولته، اختيار من بين ثلاثة أديان أو مذاهب (الكاثوليكية واللوثرية والكالفينية) تطبيقا للمبدأ الشهير «من يملك الإقليم يحدد الدين».
Whose the region to him the religion
وهو ما أدى بالفعل لاضطهاد البروتستانت فى فرنسا عام ١٦٨٥ وكذلك إلى طرد آلاف البروتستانت من إقليم سالزبورج فى العقد الثالث من القرن الثامن عشر! ورغم أن الثورة الفرنسية قد عززت موقع العلمانية بالفعل فى أوروبا الغربية إلا أن الدراسات الأكاديمية أكدت فى النهاية أن الكنائس الأوروبية ظلت تتمتع بعلاقات متميزة مع الدولة متراوحة بين التعاون التام أو التنسيق والتمتع بالامتيازات! وهو ما دعا دراسة عن العلاقة بين الدين والدولة فى أوروبا الحديثة والتى أصدرها ريموند عن دار نشر بلاك ويل عام ١٩٩٩م إلى التأكيد على أن صلح ويستفاليا فى النهاية قد أعطى الكنيسة فرصة لتعزيز سلطتها وليس إلى عزلها عن السياق العام كما هو متصور!
بل إن جون ماديلى وفى دراسة موسعة عن العلاقة بين الدين والدولة والتى صدرت عن دار نشر «راوتدليدج» عام ٢٠٠٩، قد أورد عدة نتائج لافتة للانتباه عن بحث درجة اعتماد الدول على الدين فى أوروبا لتجد الدراسة أن:
أولا: فى عام ١٩٠٠م فإنه، ومن بين ٤٥ دولة أوروبية، لم تكن هناك سوى هولندا التى يمكن وصفها «بالعلمانية»، بينما أبقت باقى الدول الأخرى اعتمادها على الدين بصور متنوعة، منها٣١ دولة اعتمدت على ديانة واحدة بعينها (فى معظمها كاثوليكية)، بينما اعتمدت باقى الدول على أديان مختلفة.
ثانيا: فى عام ١٩٧٠م حيث الحرب الباردة، فإنه من إجمالى ٢٠ دولة فى أوروبا الغربية، لم يكن هناك سوى ثلاث دول فقط يمكن وصفها بالعلمانية (هولندا وفرنسا والنمسا)، بينما باقى دول أوروبا الغربية استمرت فى تبنى أحد الأديان بما فيها دول مثل ألمانيا واسبانيا والبرتغال والدنمارك والسويد والنرويج وإيطاليا، بينما اتجهت معظم دول الكتلة الشرقية إلى تبنى مبدأ «إلحاد الدولة» بحيث لم تكتف بفصل الدين عن الدولة ولكنها سعت أيضا إلى محاصرة الأول والتمييز والاضطهاد لأتباعه.
ثالثا: فى عام ٢٠٠٠م، فقد كشفت الدراسة أنه من بين دول أوروبا الغربية فإن ألمانيا انضمت إلى هولندا وفرنسا والنمسا فى الفصل التام بين الدولة والدين، فيما ظلت باقى الدول الـ١٦معتمدة بمستويات مختلفة على الدين ومؤسساته فى الشأن العام. فيما انقسمت الدول التى خرجت من عباءة الكتلة الشرقية بين دول عادت إلى الاعتماد على ديانات الأغلبية بها أو أصبحت دول علمانية. وهكذا، فبحلول عام ٢٠٠٠م فإن ١٢ دولة أوربية فقط كان يمكن وصفها بالعلمانية بينما ظلت ٣٣ دولة تعتمد بأشكال مختلفة على الدين منها سولفينيا والتشيك وأوكرانيا وروسيا البيضاء، فضلا عن اليونان والدنمارك وبلجيكا وأيسلندا وإيطاليا والبرتغال واسبانيا والمملكة المتحدة وايرلندا.
***
فى الدراسة السابقة نفسها، فإنه، وبحلول عام ٢٠٠٢م، كانت العلاقة بين الدين والدولة على النحو التالى:
• من إجمالى ٤٣ دولة تنتشر بها الكاثوليكية فى العالم فإن ثلاث دول فقط (٧٪) كانت تشهد فصلا تاما بين الدين والدولة، بينما لعبت الكنيسة الكاثوليكية دورا مؤسسيا فى ٧ حالات (٣.١٦٪)، أما فى ١٨ دولة فحصلت الكاثوليكية على اعتراف وإقرار بالوجود فى الشأن العام، بينما أبقت ٩ دول على علاقة تعاونية بين الدولة والكنيسة الكاثوليكية بها.
• أما فى ٥٣ دولة تنتشر بها المسيحية غير الكاثوليكية (البروتستانتية والأرثوذكسية وغيرها)، فإن دولة واحدة فقط عمدت إلى الفصل التام بين الدين والدولة، فيما قبلت ٦ دول بدور مؤسسى للدين، فيما فضلت الأكثرية (٢٠ دولة بنسبة وصلت إلى ٣٧.٧٪) إلى الإبقاء على مساحات محدودة نوعا ما للمؤسسات الدينية دون القبول بالفصل التام.
• أما فى حالة الدول التى ينتشر بها الإسلام (٤٧ دولة تم دراستها) فإن ٤ حالات فقط قبلت بالصيغة العلمانية، فيما فضلت الأغلبية (٥٧.٤٪) إلى قبول الدين ليلعب دورا مؤسسيا فى الحياة العامة، فيما فضلت باقى الدول الإسلامية صيغ متفاوتة تراوحت بين الإقرار بدور الدين إلى التعاون مع المؤسسات الدينية.
وفى دراسة ثالثة وأخيرة حاولت قياس درجة انخراط الدولة فى الدين بإعطاء كل حالة مجموعة من النقاط بحسب درجة التدخل تراوحت بين صفر (الدول التى لا تتدخل إطلاقا) و٨٠ نقطة (الدول التى تعظم من درجة تدخلها)، فقد جاءت النتائج أيضا لافتة للنظر على النحو التالى:
• من إجمالى ٢٦ ديموقراطية غربية، فإنه لا يوجد سوى ٤ دول فقط (الولايات المتحدة، النمسا، هولندا، كندا) هى التى أخذت نقاطا بين صفرو ١٠، أى أن هذه الدول فقط هى التى أبقت على درجة تدخل متدنية فى الدين. بينما حصلت ٨ دول (منها ألمانيا والسويد وإيطاليا وايرلندا) على نقاط تراوحت بين ١٠و ٢٠ فى التعبير عن درجة تدخل أعلى فى الشأن الدينى، فيما حصلت أكثرية الدول الديموقراطية الغربية (١٢ دولة) على درجة تدخل تراوحت بين ٢٠و ٣٠ نقطة تعبيرا عن مزيد من التدخل منها دول مثل سويسرا وفرنسا وبلجيكا والدنمارك. فيما ارتفعت درجة التدخل لتتراوح بين ٣٠و ٤٠ نقطة فى دولتين فقط (اليونان وفنلندا).
• فى مقابل ذلك فإن دولا ديموقراطية غير غربية مثل الهند حصلت على درجة تدخل تراوحت بين الـ ٢٠ والـ ٣٠ نقطة، بينما ارتفعت فى الأرجنتين وإسرائيل بين الـ ٣٠ والـ ٤٠ نقطة، فيما وصلت درجة تدخل تركيا فى الدين إلى ما بين ٤٠و ٥٠ نقطة.
• أما فى معظم الحالات الإسلامية (معظمها غير ديموقراطية) فإن نقاط تدخل الدولة فى الدين ارتفعت إلى ما بين ٤٠و ٥٠ نقطة فى دول مثل سوريا والكويت واليمن، وبين ٥٠و ٦٠ نقطة فى المغرب والجزائر وقطر وتونس، فيما وصلت فى الأردن ومصر وإيران إلى نحو ٧٠ نقطة للتدخل، فيما تخطت الـ ٧٠ نقطة فى المملكة العربية السعودية.
***
ماذا تقول هذه الأرقام إذن؟
ــ تقول أولا أن التصور النظرى عن العلمانية باعتبارها فصلا تاما بين الدولة والدين هو غير موجود عمليا غير فى عدد محدود للغاية من الدول الغربية، فيما تتبنى باقى الدول الغربية الديموقراطية صيغا توفيقية بين دور مؤسسات الدولة والمؤسسات الدينية بحيث تسمح لهذه المؤسسات بلعب أدوار مهمة بها، ويتزايد هذا الاتجاه فى الدول المتحولة حديثا إلى الديموقراطية وتحديدا فى أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وآسيا. تقول أيضا إن قرار الدولة بإبعاد الدين عن المساحة العامة لا يعنى بالضرورة الديموقراطية والقبول بالتعددية، بل إنه فى حالات كثيرة وصل إلى درجة من الاضطهاد والتمييز ضد المتدينين وهو ما انتفى معه أى صيغة ديموقراطية أو تعددية.
تقول هذه الأرقام ثالثا أن علمانية الدولة لا تعنى بالضرورة رغبتها فى استقلال الدين عن سيطرتها، بل إنها فى بعض الحالات كانت تعنى قدرا ما من التدخل فى الشأن الدينى (حالات هولندا وفرنسا واسبانيا والدنمارك وتركيا). كما أنها تقول أخيرا أن دين الأغلبية ظل له اعتبار فى المساحة العامة حتى فى دول أوروبا الغربية الديموقراطية.
يطرح هنا السؤال نفسه، إذا كان الدين يلعب أدوارا معتبرة فى عدد من الدول الغربية الديموقراطية فلماذا (كما تظهر الدراسات) تتجه معظم الدول الإسلامية والتى يلعب الإسلام دورا مهما أيضا بها إلى أن تكون دول متأخرة على مقاييس الديموقراطية والتعددية؟ وهل أعاقت الأديان غير الإسلامية دولها عن التقدم على مؤشرات الحرية والديموقراطية؟ هذا ما أحاول الإجابة عنه فى مقالات قادمة.