سخريةٌ مريرة، ونظرة انتقادية حادة للمجتمع المحلى والأوروبى، تميز أعمال الروائى البلجيكى ديميترى فيرهولست، وتمنحها مذاقًا خاصًا. تجمع رواياته بين الخفة والعمق، ويبدو منزعجًا من تناقضاتٍ حادة لا يراها الكثيرون، وتترك حكاياته فى الذاكرة أسئلة صعبة ومؤلمة، تخرج وسط ضحكات صاخبة.
فى روايته الأحدث، الصادرة عن دار العربى، بترجمة محمد عثمان خليفة، تحت عنوان «المسيح قادم إلى بروكسل»، ذروة هذا الاتجاه، فالرواية استلهام معاصر للوحة شهيرة تتصدر غلاف الكتاب للفنان البلجيكى جيمس إنسور، رسمها فى العام 1888، ومنحها عنوان «دخول المسيح إلى بروكسل»، ويظهر فيها السيد المسيح وسط طوفان من البشر، بعضهم يصرخ، والبعض مندهش، والجميع فى كرنفال ترحيب ملون، واللوحة تعبّر عن الحاجة إلى الخلاص، والبحث عن منقذ من متاعب الحياة، فى نهايات القرن التاسع عشر.
فيرهولست أخذ الفكرة، وسأل نفسه: وماذا لو عرفنا أن المسيح قادم إلى بروكسل المعاصرة المتحضرة؟ بروكسل بتاريخها وتعدديتها ومهاجريها، وبرمزية حضورها الأوروبى، إذ إنها مقر المفوضية الأوروبية، وحلف الناتو؛ أى إنها عنوان أوروبا فى وحدتها وقوّتها، وهل تحتاج بروكسل وأوروبا اليوم أيضًا إلى الخلاص؟
انطلقت حاسة السخرية عند فيرهولست إلى مداها، تدعمها معرفةٌ عميقة بمجتمعه وتناقضاته، واختار ساردًا يعيش حياة مملة، ووصلت علاقته مع زوجته دومينيك إلى حافة الطلاق، وله أم تعيش بمفردها فى مكان آخر، يحدِّثنا هذا السارد المثقف والمتأمل، عن استعداد بلجيكا كلها لهذا الحدث الخارق، وهو انتظار وصول السيد المسيح، فى يوم 21 يوليو، وهو يوم العيد الوطنى لبلجيكا.
اللافت أن الرواية، الحافلة بالتفاصيل، لا تنقل مصدرًا لخبر زيارة المسيح المفاجئة، ولا ترى مبررًا لكى توضح أصل الحكاية، أى إنها معجزة تم التسليم بها من الجميع، مؤمنين وملحدين، أو كأن لوحة إنسور الضخمة صارت جزءًا من الثقافة البلجيكية، وعنوانًا عليها، ولا ينقصها سوى أن تصبح واقعا، يتمناه الجميع.
واللافت أيضًا أن تقاطع يوم الزيارة مع العيد الوطنى للبلاد، يعيدنا إلى الحديث عن بلجيكا وظروفها وأحوالها، رغم اهتمام العالم كله بالمعجزة، فالحكاية عن بلجيكا بالأساس، وعن بلجيكا اليوم، بعد سنواتٍ طويلة من لوحة إنسور.
•••
لفتنى أيضًا أن فيرهولست، وهو روائى بارع، لم يختر السرد التقليدى، ولكنه أخذ يقدِّم لوحات متفرقة، تتكامل معا وصولًا إلى يوم الزيارة، بحيث نرى المجتمع كله، من أعلى إلى أسفل، ونرى أيضًا عالم سارد الحكاية المحدود، وعلاقته بأمه وزوجته وجيرانه، واتسع هذا الشكل لتعليقاتٍ ساخرة، وتأملاتٍ حرة، مما أكسب النص حيوية بالغة، خاصة أنه عمل مكثف وقصير.
كل اختيارات فيرهولست بارعة، وبعض اللوحات قطع فنية مدهشة، مثل لقاء البطل الأخير مع أمه، وفصل أحلام الفتاة الفقيرة التى اختاروها لكى تستقبل السيد المسيح، وحكاية الجار، الذى دعا السارد وزوجته دومينيك على العشاء لأول مرة، واعترف لهما بأنه قتل زوجته، ويريد أن يتوب، والفصل البديع لاختيار السارد أن يعطى كل ممتلكات أمه المتوفاة للمهاجرين، بينما كانت أمه تكرههم، وتنتقد وجودهم فى بلجيكا، ولوحة (أو مهزلة) مسابقة اختيار نشيد خاص، لاستقبال السيد المسيح، وبيزنس الدعاية والترويج لمنتجات كثيرة، استغلالًا لنقل العالم كله لموكب استقبال السيد المسيح فى القصر الملكى.
الصور التى تقدمها الرواية لمجتمع متعب ومنهك، يتحرك بالقصور الذاتى، يعانى من الخواء والبطالة، كل فرد يعيش منكفئًا على ذاته، لا يعرف جاره، ولا يرجو سوى استكمال يومه، والاستعداد ليوم عمل جديد، حياة آلية، وتراجع فى الخدمات، على عكس الصورة البراقة، أما المهاجرون الباحثون عن وثيقة إقامة، فهم معزولون فى مناطق خاصة، وينتظرون الترحيل فى أى وقت.
• • •
الآن على دولةٍ تمثّل أوروبا المتحضرة أن تطلب الخلاص من المسيح، وأن تُصلح أحوالها استعدادًا لاستقباله، فلا يليق أن يرى المسيح العاهرات فى الشوارع، ولا يليق أن يعرف أن الفقراء والمهاجرين وإخوتنا فى الإنسانية فى حالة بائسة، والأهم أن تستيقظ الضمائر، وأن يعترف العصاة، وأن يتزاحموا لالتماس الرحمة، وأن يتكدس المرضى طلبًا للشفاء، وأن يعتدل المزاج العام، ليحل التسامح محل الغضب.
يتوقف استخدام السيارات فى قلب بروكسل، لأسبابٍ أمنية، فيختفى التلوث، وتشيع البهجة بين الجميع، ويقرر السارد وزوجته أن يؤجِّلا رحلتهما السنوية إلى الخارج، ليكونا وسط الآلاف فى استقبال المسيح، يمنحان زواجهما فرصة أخيرة للصمود، وتعيش بروكسل هدنة من ماراثون الحياة اليومية التى لا ترحم.
تتحول لوحة إنسور إلى كلماتٍ ملونة بالأمل والسخرية، ويعود البشر مؤقتًا إلى إنسانيتهم، فى انتظار حدوث معجزة، لن أكشف لك نهايتها، ولكن ما يقترحه فيرهولست من وراء الحكاية أهم وأخطر، لأنه يعلن بوضوح أن بلجيكا، عنوان أوروبا، تمثل مجتمعا مريضًا، رغم تحضرها، وهى فكرة يلح عليها فيرهولست كثيرًا فى رواياته، فالمعيار عنده ليس الحداثة الظاهرية، ولكن إنسانية البشر، وقيمتهم، وعلاقاتهم الاجتماعية الصحية، ونضجهم فى مواجهة مشكلاتهم، والمعيار هو عدم تحول البشر أنفسهم إلى سلعة استهلاكية..
والسارد فى حكايتنا يكتشف أنه يزور دولة كل عام مع زوجته، ليكتشف البشر فى كينيا مثلًا، بينما هو لا يعرف اسم جاره فى نفس البناية، ولا يتزاور معه، ولا يعرف حتى أن هذا الجار، واسمه أنطوان، قتل زوجته وأحرقها دون أن يعرف أحد!
الأمر الثانى الخطير فى الرواية هو أن حلم الخلاص أصبح ملحّا عند الجميع، الخلاص هو العيد الوطنى الحقيقى، ضرورة مراجعة الذات، وتصحيح الأخطاء على مستوى الفرد والدولة معًا، لأن هناك إحساسًا عامًا بأن الحياة بتلك الطريقة الفردية الاستهلاكية، ستقود إلى كارثةٍ، وحضور المسيح هو الفرصة الأخيرة. لكن ربط التغيير بمعجزة حقيقية يؤكد لنا صعوبة العلاج، ويعيدنا إلى مسئولية الفرد عن إنقاذ نفسه، والعالم كله، لو أراد.
أيها المتعبون البائسون: أنتم المرض والدواء، فهل تستيقظون؟