من أزمة الائتمان إلى أزمة السيولة - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 2:06 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من أزمة الائتمان إلى أزمة السيولة

نشر فى : الجمعة 2 ديسمبر 2016 - 9:45 م | آخر تحديث : الجمعة 2 ديسمبر 2016 - 9:45 م
استيقظ العالم على أزمة مالية كبيرة عام 2008 كانت إرهاصاتها قد بدأت فى الظهور قبل ذلك بقليل، لكن الصدمة الكبيرة التى عرفت بأزمة الرهن العقارى أو أزمة الائتمان credit crunch وضحت معالمها بشكل كبير فى سبتمبر 2008، حين انفجرت فقاعة ضخمة فى محيط البنوك ومؤسسات التمويل العقارى الأمريكية، وهو ما أدى إلى إفلاس العديد من المؤسسات المالية العالمية الكبرى، وتورّط العديد من مؤسسات التصنيف الائتمانى كالعادة، وتداعى أسواق المال العالمية بانهيارات غير مسبوقة.
وإذا كانت أزمة الائتمان تعرف بأنها:«تراجع فى مستويات الائتمان المتاح عند أى سعر فائدة قائم» أى هى بصياغة أخرى: حالة من الانفصال بين حجم الائتمان وسعره، وهى عادة ما تخلق فى ظل تزايد الديون الرديئة، فإن أزمة السيولة cash crunch يمكن رصدها فى تراجع حجم النقود المطلوبة لتشغيل الوحدات الاقتصادية سواء كانت تلك الوحدات من الأفراد أو المؤسسات.. ويمكن أن تتجسّد أزمة السيولة فى هيئة تراجع حاد فى القوى الشرائية للنقود المعروضة بحيث تأكلها معدلات التضخم بشكل كبير.
***
فى ظل أزمة الائتمان يتجه المقرضون والمستثمرون نحو الاستثمارات الآمنة فيما يطلق عليه flight to quality أى «المسارعة نحو الجودة» أى محاولة البحث عن أوعية استثمارية أقل مخاطرة من تلك التى أصابتها الفقاعة. هذه الأوعية تختلف من بلد إلى آخر ومن اقتصاد إلى آخر، وفى مصر عادة ما تنشط مبيعات الذهب والأراضى والعقارات وأذون الخزانة والعملة الصعبة.. وهو ما يخلق تضخما كبيرا فى أسعار تلك الأوعية، فإذا ما عادت الأسواق إلى توازنها بشكل طبيعى يبدأ المستثمرون فى التخلى عنها تدريجيا، ويعاد توزيع الفوائض والمدخرات على سائر أوجه الاستثمار المنتج والريعى على السواء حسب ظروف السوق والمناخ العام للاستثمار.
لكن مبدأ «أكبر من أن تسقط» too big to fail والذى أطلق فى بداية أزمة الرهن العقارى الأمريكية وقصد به مؤسسات التمويل وبنوك الاستثمار المرشحة للإفلاس، ساد بشكل غريب خلال السنوات الماضية، وأثّر فى سلوك متخذى قرارات السياسة النقدية بحيث بات من المحتّم التدخل العنيف فى آليات عمل الأسواق لإصلاح الخلل الذى نتج عنه الأزمة المالية، وعدم ترك الأسواق لآلياتها التصحيحية الطبيعية، لأن أحدا لا يستطيع أن يحتمل هذا الخلل طويلا، ولأن شبح الأزمة العالمية الأولى عام 1929 وما يليه مازال يؤثّر فى وجدان الجميع ويملى عليهم سلوكا مضطربا فى أغلب الأحوال. كان نتيجة ذلك كله أن توسّعت البنوك المركزية حول العالم فى التدخّل لمنع السقوط، تأسيا بتجربة البنك الفيدرالى الأمريكى بقيادة «برنانكى» آنذاك، ونتج عن هذا التدخّل احتواء الأزمة بسرعة، لكن ترك اختلالا كبيرا فى هيكل الأسواق، وفقاعات كثيرة مرشّحة للانفجار فى كثير من الأصول، وزيادة حجم الديون فى العالم لتصل إلى ثلاثة أضعاف حجم الناتج، وانتشار أزمات «السيولة» فى كثير من الدول التى انتقلت إليها العدوى المالية عبر قنواتها المعروفة.
***
من أبرز أعراض أزمة السيولة؛ انهيار قيمة العملة المحلية بحيث تعجز النقود عن شراء السلع والخدمات المعروضة فى الأسواق المحلية والعالمية، بما يؤدى إلى فقدان الثقة فى تلك العملة و«المسارعة نحو الجودة» مجددا (من قبل المستهلكين هذه المرة)، بحيث يتم التعجيل بشراء السلع غير المطلوبة الآن، واقتناص كل فرصة لفترات الخصومات والتخفيضات لشراء سلع غير مطلوبة بشكل ملحّ، بغرض تخزين القيمة فيها، والمسارعة إلى تحويل أى فائض من المدخرات إلى أوعية آمنة مثل الذهب والعقار والعملات الصعبة (باعتبارهم مستثمرين لهذا الفائض).. وإذا بدت المقدمات المباشرة للأزمة فى اليونان مختلفة عن هذه التى تضرب فنزويلا أو تلك التى تعصف بزيمبابوى.. فإن المحصّلة واحدة وهى أزمة سيولة خانقة، واختفاء النقود من ماكينات الصرف (فى حالة اليونان لأنها لا تطبع اليورو كونها دولة عضوا فى الاتحاد الأوروبى) أو وزن النقود بالكيلو لشراء سلع رخيصة الثمن! لأن الإفراط فى طباعتها يحوّلها إلى أوراق لا قيمة لها كما يحدث فى فنزويلا خاصة بعد تراجع أسعار النفط، أو إصدار سندات دولارية لتحل محل العملة المحلية كوسيط للدفع بالأسواق بعد أن فقدت العملة المحلية قيمتها بشكل شبه تام كما هى الحال فى زيمبابوى.. الأمثلة كثيرة والدول المرشّحة لأزمات سيولة طاحنة ينتج عنها تضخم جامح hyperinflation باتت كثيرة أيضا.
هذا التحول من أزمة فى الدفع بالائتمان إلى أزمة فى الدفع النقدى يشير إلى انقلاب قطبى فى حركة الاقتصاد العالمى، على غرار ما يحدث مع تغيرات الأقطاب المغناطيسية للكواكب. لا يمكن قراءة هذا الانقلاب فى معزل عن تدخلات البنوك المركزية فى الأسواق حول العالم، بغية السيطرة على تداعيات أزمة عام 2008 بالتوسّع فى استخدام سياسات «التيسير الكمى»، والتى من خلالها تقوم البنوك المركزية بشراء الأوراق المالية والنقدية بغرض زيادة المعروض النقدى وخفض أسعار الفائدة. لكن لكل دواء آثاره الجانبية، وآلية عمل الأسواق الحرة لا تحتمل عادة هذا النوع من التدخلات العنيفة التى تعبث بقوانين العرض والطلب، وتغير مراكز القوى بسرعة مصطنعة، وهى فى الأخير أموال تولد من غير رحم المنظومة الطبيعية للتمويل والاستثمار.
التيسير الكمّى أدى إلى احتواء بعض أزمات التشغيل وأبقى على أسعار الفائدة منخفضة إلى حد ما من أجل تشجيع الاستثمار، لكنه خلق معروضا نقديا عظيما فى الأسواق التى تنتقل حول العالم بسهولة فى عالم أكثر تشابكا من عالم ثلاثينيات القرن الماضى، وهو ما أدى إلى خلق ضغوط تضخمية كبيرة تضرب أول ما تضرب أكثر أركان الاقتصاد العالمى هشاشة ثم تنتقل سريعا إلى ركن آخر لتضرب من جديد، كما خلق طلبا مصطنعا على السندات وكثير من منتجات الدخل الثابت بما تسبب فى أزمة الديون التى بلغت ثلاثة أضعاف حجم ما ينتجه العالم كما سلفت الإشارة.. كذلك خدم التوسّع فى سياسات التيسير الكمى كبار المستثمرين والمتعاملين فى أسواق الأوراق المالية، وأدى إلى مزيد من الانحراف فى توزيع وتراكم الثروات حول العالم.
***
مصر ليست بمنأى عن تطوّر أزمة السيولة بشكل أكثر حدة، وكثير من أعراض هذا التطور الذى أشرت إليه فى المقال يمكن إسقاطه على سلوك المستهلكين والمستثمرين فى مصر حاليا. كذلك تعانى مصر من بلوغ حجم الدين العام مستويات مقلقة (بلغت تقريبا 100% من حجم الناتج المحلى الإجمالى) ومن نمو الدين الخارجى بمعدلات كبيرة خلال بضعة أشهر، ولا توجد مؤشرات قريبة للخروج من أزمة الدين. كل أزمات التضخم وندرة العملة الصعبة وكساد الأسواق تنبت فى مصر من أصل واحد؛ وهو تراجع الإنتاج، سواء المخصص للتصدير أو للإحلال محل الواردات. فإذا لم تعمل البنوك التجارية فى مصر على توفير بيئة صالحة للإنتاج فلا مخرج وشيكًا من الأزمة، إذ من المهم أن تحسن البنوك التصرّف فى أموال المودعين. إن لم تتحول الودائع إلى قروض منتجة تدور فى الاقتصاد، وتعمل على زيادة النمو والتشغيل وخلق فرص العمل، وظلت تستثمر فى شراء سندات وأذون حكومية لتعظّم الدين المحلى، أو هى فى أحسن الأحوال تغذّى الفقاعة العقارية بخلق ائتمان فى كتل أسمنتية غير مأهولة، فإن الأزمة تصبح أخطر.
مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات