الوطن ــ عمان
محمد الدعمى
إذا كان «بيت العرب»، أى الجامعة، قد أوجد ما يكفى من القضايا والأزمات والموضوعات لضمان وجوده وتواصله فاعلا منذ أواسط القرن الماضى حتى اللحظة، إلا أنه شهد العديد ممن خرج عليه وراح يرميه بالحجارة والحصى، خاصة بعد أن أخفقت الجامعة فى أن تكون فاعلة، أو فى أن تتحرر من إملاءات حكومات الدول العربية المتنفذة والغنية.
للمرء أن يفترض أن عام 2016 يمكن أن يكون عام نهاية ما أطلق عليها عنوان «الدولة القومية» منذ النصف الأول من القرن الماضى. وإذا كان الافتراض قد جهز، لا يتبقى للمرء سوى محاولة البرهنة عليه، إن إيجابا أو سلبا، ففى كلتا الحالتين ستتاح النتيجة والخلاصة النهائية.
تدين «الدولة القومية» فى العالم العربى بمنشئها للإمبراطورية البريطانية، بعد أن انتصرت فى الحرب العالمية الأولى، ناكثة بتعهداتها للشريف حسين(شريف مكة) القاضية بمنحه وأبنائه المشرق العربى (من سواحل البحر المتوسط حتى حدود إيران الغربية) ليكون مملكة عربية تحت التاج الهاشمى، إن وافق الشريف ونفذ مطلبها بالثورة على العثمانيين الأتراك.
نفذ الرجل شروط بريطانيا من جانبه، ولكن بريطانيا أخلت بالاتفاق، برغم منحها أميرين من أبناء الحسين مملكتين فى المشرق العربى، فيصل على العراق وعبدالله على الأردن. ولأن ما قدمته لندن لم يرق إلى مستوى الاتفاق السرى الأولى الذى أجرى بواسطة «لورنس العرب»، فقد حاولت لندن المساعدة على لمِ شمل الدول العربية الفتية والناشئة بمعاونتها على تأسيس ما سمى بـ«جامعة الدول العربية»، تأسيسا على آصرة «قومية» تربط ابن مسقط بابن الدار البيضاء، وابن البصرة بابن الخرطوم.
هكذا ولد ما سمى بـ«النظام العربى المشترك» الذى أسسه رجال أجلاء من عيار المرحومين نورى باشا السعيد (رئيس وزراء العراق آنذاك) والنحاس باشا (مكافئ الأول فى مصر).
وإذا كان «بيت العرب»، أى الجامعة، قد أوجد ما يكفى من القضايا والأزمات والموضوعات لضمان وجوده وتواصله فاعلا منذ أواسط القرن الماضى حتى اللحظة، إلا أنه شهد العديد ممن خرج عليه وراح يرميه بالحجارة والحصى، خاصة بعد أن أخفقت الجامعة فى أن تكون فاعلة، أو فى أن تتحرر من إملاءات حكومات الدول العربية المتنفذة والغنية. لذا كان تحفظ الرئيس التونسى السابق المرحوم «الحبيب بورقيبة» على العديد من مبادئها ومواثيقها، خاصة بعد محاولة المرحوم عبدالناصر تجيير فكرة الجامعة الأصل لمشاريعه الوحدوية، مصر وسوريا، ثم مصر وسوريا والعراق.
بيد أن أقوى لكمة تلقتها الجامعة جاءت من بغداد بعد طرد الشقيقة مصر منها (مؤتمر قمة بغداد 1979)، ثم نقل مقراتها إلى تونس. وإذا كانت هذه اللكمة بالدرجة الكافية من القوة لتجعل القيادات العربية تراجع مواثيق واتفاقيات وبروتوكولات الجامعة، للتأكد من صلاحيتها ومن مواكبتها العصر، فإن بغداد قد سارعتها بالضربة القاضية، عندما غزا النظام آنذاك الكويت على حين غرة، ثم عندما تم استثمار الجامعة إطارا جامعا لتجحفل الجيوش العربية، مع الجيوش الحليفة غير العربية، لدفع القوات العراقية من الكويت. وحسنا ما فعله بعض الكتاب العرب عندما وصفوا الغزو أعلاه بتعابير من نوع «زلزال» أو «هزة أرضية»، كناية عن آثاره المدمرة على وحدة الصف العربى.
وهكذا توالت الركلات واللكمات الموجهة للنظام العربى المشترك حتى تحولت الجامعة إلى مجرد هيكل مضعضع لا يفكر أحد فى استشارته أو الرجوع إليه عبر العالم العربى إلا شكليا، الأمر الذى فتح الأبواب واسعة لتأمل الأنظمة العربية، ومنها القومية، أفكار تحالفات ومحاور وتكتلات إقليمية، عامة أو محدودة، تكون أكثر فاعلية من الجامعة، وأشد تواشجا مع القضايا التى تشغلها، خاصة السياسية والأمنية. وبذلك خسرت الجامعة موقعها ملجأ للعرب وبيتا لا يؤمن ساكنيه، للأسف.
أما انقضاء حقبة الحرب الباردة بإسقاط جدار برلين، فإنه قد أذن بحقبة من نوع جديد، سميت «حقبة القطب الواحد»، أى حقبة الهيمنة الأمريكية Pax Americana. ومع تدشين هذه الحقبة، توجب إلغاء وإزالة الكثير من الأطر والهيئات الإقليمية التى تأسست أصلا تلبية لمصالح ولرغبات الإمبراطوريتين الآفلتين، البريطانية والفرنسية.
لقد أدركت الأنظمة العربية هذه الاستحالات بوضوح، فأخذت تحرر نفسها من التزاماتها للجامعة، متجهة نحو أنماط أخرى من الترتيبات الإقليمية، ترتيبات تستجيب للمتغير السياسى، وتحاول أن تسبق منحنى التحولات العالمية عامة. لذا أذن سقوط الأنظمة المعروفة بـ«القومية» عبر مرحلة ما سمى بـ«الربيع العربى»، تعسفا، ببداية العد التنازلى لمفهوم «الدولة القومية».