البعض يردد معلومات غير دقيقة، عن عدم تدخل الحكومات فى الأسواق التى تتبنى اقتصادات السوق بأى صورة فى تحديد أسعار السلع الغذائية ومنتجات الطاقة. آليات التدخّل فقط هى التى تختلف من دولة إلى أخرى، لكن الحكومات لا يمكنها أن تنزع يدها تمامًا من تلك الأسواق، خشية فقدان أحد أهم أركان الأمن القومى والمتمثّل فى الأمن الاقتصادى. بعض أوجه الدعم تقدّم للسلع وليس لمستهلكيها، ومن ثم فمن المناسب أن يكون توجيه الدعم للمنتجين، بحيث ينعكس على تكلفة الإنتاج وتنخفض الأسعار للمستهلك النهائى، فى ظل رقابة حكومية بالطبع. كذلك هناك أشكال للدعم المباشر التى تصل إلى المستهلك فى صورة عينية (حصص محددة من السلع الضرورية) أو فى صورة نقدية. وتتم المفاضلة بين بدائل الدعم النقدى والعينى على أساس قدرة كل منهما على تحقيق مستهدفات الدعم، وعلى طبيعة وسلوك المستفيدين، وعلى آلية عمل الأسواق والنظام الضريبى، والتأثير المتوقع على معدلات تضخم الأسعار، وحركة الأسواق.. إلى غير ذلك من اعتبارات.
• • •
الأمن الغذائى والأمن الطاقى والأمن الوظيفى من أبرز مكونات الأمن الاقتصادى بمفهومه الشامل. ولا تتحقق أهداف الأمن الاقتصادى إلا من خلال ضمان الحد الأدنى من وصول الغذاء الأساسى لمختلف السكان، مع التأكيد على التمتّع بموارد مستقرة من الطاقة، والحصول على عمل يحقق الكرامة الإنسانية، ودخل يتجاوز حد الكفاف، ويرفع من إنتاجية ومساهمة الفرد فى الدخل القومى.
الولايات المتحدة الأمريكية، وهى الراعى الأكبر لاقتصاد السوق وحرية عملها، تقدم المبادئ التوجيهية للسكان تحت مسمّى «المبادئ التوجيهية الغذائية»، وتتضمّن نصائح بشأن ما يجب تناوله من مأكولات ومشروبات لتلبية الاحتياجات الغذائية، وتعزيز الصحة العامة والوقاية من الأمراض. وتعمل وزارتا الصحة والخدمات الإنسانية والزراعة معًا على تحديث وإصدار المبادئ التوجيهية الغذائية كل خمس سنوات. وتحدد السياسات، التى تحكم نظام الغذاء والزراعة فى الولايات المتحدة، الأغذية المستحقة للدعم، وذلك لإنتاجها من خلال الدعم المباشر أو المساعدات المالية المدعومة من دافعى الضرائب. ويساعد الدعم المقدّم للمزارعين على إبقاء الأسعار منخفضة للمستهلك (دون تمييز)، بحيث تحدد فى نهاية المطاف نوع الأغذية التى ستكون فى متناول السكان وبأسعار معقولة.
حاليًا توجّه الإدارة الأمريكية الجزء الأكبر من دعمها نحو المحاصيل السلعية، مثل الذرة وفول الصويا، وتتحمّل نتيجة لذلك نقدًا مرتفع النبرة، مداره أن الاستفادة الكبرى من هذا الدعم، يحصل عليها منتجو الوجبات السريعة الضارة بالصحة العامة.
ووفقًا لدراسة عن «تأثيرات سوق العمل على الدعم الغذائى العينى» أعدّها «أديتيا شرينيفاس» وآخرون فى يوليو 2018، فإن العديد من الدول النامية تستخدم الدعم الغذائى «العينى» لتحقيق مستهدفات الأمن الغذائى. حيث تقدّم كمية مقننة من المواد الغذائية الأساسية للمحتاجين بسعر مدعوم، لتحسين الأمن الغذائى والحد من الفقر. يعد الدعم الغذائى العينى جزءًا مهمًا من برامج المساعدة الاجتماعية التى تدعم الفقراء والضعفاء. ووفقًا للبنك الدولى، يتلقى حوالى 44% من الأفراد المستفيدين من برامج المساعدات الاجتماعية حول العالم شكلًا من أشكال «الدعم العينى».. بعض من أكبر البرامج هو برنامج «راسكين» لدعم الأرز الذى أطلق عام 1998 فى إندونيسيا، ويستفيد منه نحو 62 مليون فرد، و«نظام التوزيع العام» فى الهند الذى ينتفع به نحو 800 مليون فرد.
• • •
فيما يتعلّق بدعم الطاقة، تقدم الولايات المتحدة عددًا من الإعانات الضريبية لصناعة الوقود الأحفورى، كوسيلة لتشجيع الإنتاج المحلى للطاقة. وتشمل هذه الإعانات المباشرة للشركات، فضلًا عن المزايا الضريبية الأخرى. وتشير التقديرات المتحفّظة إلى أن الدعم الأمريكى المباشر لصناعة الوقود الأحفورى يبلغ نحو 20 مليار دولار سنويًا؛ مع تخصيص 20% حاليًا للفحم و80% للغاز الطبيعى والنفط الخام. ويقدّر إجمالى الدعم الذى يقدمه الاتحاد الأوروبى بنحو 55 مليار يورو سنويًا. فيما قدّرت دراسة أجرتها شركة أمريكية (الشركة الاستشارية «MISI») عام 2017، إجمالى الدعم الفيدرالى الممنوح لمصادر الطاقة المختلفة فى الولايات المتحدة الأمريكية خلال الفترة بين عامى 1950-2016. ووجدت الدراسة أن النفط والغاز الطبيعى والفحم حصلوا على التوالى على 414 مليار دولار، و140 مليار دولار، و112 مليار دولار (باعتماد دولارات 2015 كأساس)، وذلك يمثّل نحو 65% من إجمالى دعم الطاقة خلال تلك الفترة. واستفاد النفط والغاز الطبيعى والفحم بشكل أكبر من «مخصصات الاستنفاد» (المقصود استنفاد أرصدة الفحم والغاز من المناجم والآبار) وغيرها من أشكال الدعم الضريبى، لكن النفط استفاد أيضًا بشكل كبير من «إعانات الدعم التنظيمية»، مثل الإعفاءات من التحكم فى الأسعار، ومعدّلات العائد الأعلى من المتوسط المسموح بها على خطوط أنابيب النفط.
وكشفت الدراسة المذكورة عن أن الطاقة المتجددة غير المائية (طاقة الرياح والطاقة الشمسية بشكل أساس) استفادت من 158 مليار دولار فى صورة إعانات فيدرالية، بما نسبته 16% من إجمالى دعم الطاقة، وذلك فى صورة سياسات ضريبية مشجّعة، ونفقات فيدرالية مباشرة على البحث والتطوير. واستفادت الطاقة النووية من 73 مليار دولار من الإعانات الفيدرالية، أى 8% من الإجمالى، فى حين تلقت الطاقة الكهرومائية 105 مليارات دولار من الإعانات الفيدرالية، أى 10% من الإجمالى. ومن الجدير أنه خلال الفترة من عام 2011 حتى عام 2016، تلقت الطاقة المتجددة أكثر من ثلاثة أضعاف المساعدات والحوافز الفيدرالية الموجّهة للنفط والغاز الطبيعى والفحم والطاقة النووية مجتمعة، و27 ضعفًا لما تلقته الطاقة النووية.
• • •
وفيما كان الاتجاه العالمى لخفض الدعم الموجّه للوقود الأحفورى، هدفه إعادة توجيه الدعم والإعانات إلى مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة، فإن تخفيف الضغط على الموازنات العامة لم يكن دافعًا معلنًا على أية حال. ويقدّر تقرير لصندوق النقد الدولى، أنه تم إنفاق 6,5% من الناتج المحلى الإجمالى العالمى (5,2 تريليون دولار) على دعم الوقود الأحفورى فى عام 2017، بزيادة قدرها نصف تريليون دولار عن عام 2015. وكانت أكثر الدول الداعمة هى الصين (1,4 تريليون دولار)، والولايات المتحدة (649 مليار دولار)، وروسيا (551 مليار دولار). ووفقا لصندوق النقد الدولى، فإن "الوقود الأحفورى يمثل 85% من جميع الإعانات العالمية". ووفقا للصندوق، ارتفعت إعانات دعم الوقود الأحفورى إلى مستوى قياسى بلغ 7 تريليون دولار فى العام 2022، حيث دعّمت الحكومات المستهلكين والشركات خلال الارتفاع العالمى فى أسعار الطاقة الناجم عن الغزو الروسى لأوكرانيا، والتعافى الاقتصادى من جائحة كورونا.
فيما ارتفع دعم الطاقة فى الهند فى السنة المالية 2023 إلى 39,3 مليار دولار، وهو أعلى مستوى له منذ تسع سنوات. تُعزى هذه الزيادة إلى استراتيجية تعزيز إمدادات الطاقة فى ضوء أزمة الطاقة العالمية لعام 2022 والاحتياجات المتزايدة. ويأتى هذا التطور فى الوقت الذى تواصل فيه الهند مناصرة الريادة المناخية عالميا، والدعوة (خلال رئاستها لمجموعة العشرين) إلى مضاعفة قدرة الطاقة المتجددة العالمية ثلاث مرات بحلول عام 2030.
وإذا كانت حكومة مصر قد أعلنت أن مخصصات الدعم والإعانات الاجتماعية (مشتملة على مدفوعات المعاشات المخصومة من اشتراكات أصحابها!) قد بلغت 636 مليار جنيه فى موازنة العام 2024-2025. فإن الرقم المذكور لا يعدو أن يمثّل نحو 11,5% من إجمالى استخدامات تلك الموازنة (دون اشتمالها على الهيئات الاقتصادية تحت مفهوم جديد للحكومة العامة). فيما تمثّل مدفوعات خدمة الدين نحو 62% من ذات الاستخدامات، ولا تمثّل الأجور أكثر من 10,4% فقط. وقد اعتدنا أن تنقسم الموازنة العامة إلى أربعة أجزاء شبه متساوية بين كل من الأجور والدعم وخدمة الدين وسائر أوجه الإنفاق، وكان ذلك بمثابة تقييد للحكومات المتعاقبة لسنوات طوال قبل ثورة عام 2011، وبعدها ببضع سنين. لكن القيد اليوم صار أكبر من هذا بكثير، حيث لم تعد الحكومة حرة فى التصرّف إلا فى نحو من ثلث استخدامات الموازنة العامة! وقد تراجعت مصروفات الدعم والأجور بشدة لصالح خدمة الدين العام خلال السنوات الأخيرة، لتجعل دور المالية العامة شديد الضعف فى التأثير على حركة الاقتصاد، أو فى تحديد مستهدفات الأمن الاقتصادى، ناهيك عن الرفاهية الاقتصادية والتقدّم.
• • •
يحتاج الاقتصاد المصرى إلى الكثير من الإصلاحات الضرورية العاجلة، وإلى استمرار التقييد النقدى والتقشّف الحكومى (فى غير مصارف الحماية الاجتماعية) حتى تتم السيطرة على العدو الأكبر للحكومة والمواطن، والمتمثّل فى التضخم الجامح. بعد ذلك، يمكن البحث فى بدائل تحوّل الدعم العينى إلى نقدى بنسب متفاوتة، وبشروط تحقيق المستهدفات والاعتبارات سالفة الإشارة.