مئوية محمود أمين العالم - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 5:48 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مئوية محمود أمين العالم

نشر فى : السبت 5 مارس 2022 - 8:15 م | آخر تحديث : السبت 5 مارس 2022 - 8:15 م

ــ 1 ــ
فى احتفاليةٍ مهمة نظمت، السبت الماضى، أحيا مثقفون ومفكرون ونقاد ــ الذكرى المئوية لميلاد الكاتب والمفكر والناقد والمناضل السياسى الوطنى محمود أمين العالم (1922ــ2009) أحد وجوه النخبة المستنيرة الأصيلة الحقيقية، طوال ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن.
يرتبط عندى اسم محمود أمين العالم بالبشاشة والتواضع والابتسام والتفاؤل؛ كان محياه ودودا مسالما يخلو من جهامة المثقفين وتعاليهم المقيت، وتقطيبهم الدائم لإضفاء الجدية والرصانة على ما يقولون! كنت أحب أن أراه وأسمعه وهو يتحدث بنبراته الهادئة الخفيضة الواثقة المتدفقة، لم أكن أفوت مناسبة يظهر فيها متحدثا أو محاضرا على التليفزيون أو بالمصادفة على «يوتيوب». كان مجرد ظهوره أمامى بملامحه الأبوية الطيبة الوديعة كفيلا بإشاعة البهجة والأمل والتفاؤل فى روحى، فضلا على المعرفة الموسوعية الحانية التى تتدفق على لسانه فى كل موضوع، وأى موضوع يتحدث فيه.
فى فترة التسعينيات من القرن الماضى كان حضوره متوهجا من خلال مقالاته وكتبه وإشرافه على الكتاب غير الدورى «قضايا فكرية» الذى أذكر أنه خصص عددا كاملا لقضية نصر أبوزيد، وكان متخما بالدراسات العميقة والقراءات شديدة التخصص فى مشروع أبوزيد القرائى والتأويلى ونقد التراث.
ــ 2 ــ
محمود أمين العالم مثال فذ لما يمكن أن نقول عنه «المثقف العضوى» بالمفهوم الجرامشى؛ المثقف المهموم بقضايا الوطن وأسئلة الحداثة والتقدم والنهوض والخروج من نفق العصور المظلمة إلى آفاق العصور الحديثة. المثقف الذى سعى طوال عمره إلى ترسيخ معارفه الإنسانية والفلسفية، وصقل تكوينه الفكرى والنقدى، وتعميق مواقفه النضالية المناوئة للثقافة الإمبريالية والصهيونية، والغزو الثقافى، وقضايا الحداثة والهوية الثقافية والأصالة والمعاصرة، وإشكالية العلاقة بين المثقفين والسلطة، والتحليل النقدى لموقف الفكر العربى المعاصر من التراث، وهى القضايا التى ستظل شغله الشاغل وانشغاله الأصيل طوال حياته.
وبهذا المعنى هو تلميذ نجيب من تلاميذ العميد طه حسين الذين قرروا بشجاعة مواجهة الأستاذ والتمرد عليه؛ فكريا ونقديا، فأصدر فى العام 1955 بالاشتراك مع صديق عمره ورفيق الفكر والكفاح والنضال الوطنى د. عبدالعظيم أنيس كتابهما الوثيقة «فى الثقافة المصرية» الذى كان بمثابة الإعلان المدوى عن ميلاد مدرسة جديدة فى الفكر النقدى والدراسة الأدبية، وأحدث أثرا عميقا فى الحياة الثقافية والأدبية المصرية بل والعربية أيضا.

ــ 3 ــ
وما زلت أذكر جيدا الوقفات المطولة التى وقفناها أثناء قراءة الكتاب، وتحليل نصوص مفصلة منه، باعتباره نقطة تحول ومحطة فاصلة فى تاريخ النقد العربى الحديث. لم نكن ندرك وقتها تأسيسية هذا الكتاب، ولا قيمته كوثيقة نقدية، خصوصا أنه جاء بمثابة ثورة جذرية على نقد الآباء الرواد، وللدرجة التى جعلت طه حسين يقول متهكما عنه «إنه يونانى لا يقرأ»! أو يرد العقاد على مقالات الكتاب بعنفٍ زائد فى واحدٍ من مقالاته اللاذعة التى جعل عنوانها «اضبط.. إنهما شيوعيان!».
كان محمود أمين العالم فى الثلاثينيات من عمره آنذاك، وعبدالعظيم أنيس كذلك. كان الأول باحثا واعدا فى قسم الفلسفة تحصل على درجة الماجستير فى موضوع «فلسفة المصادفة»، وكان على وشك الانتهاء من إعداد أطروحة الدكتوراه فى «فلسفة القيم»، وكان عبدالعظيم أنيس شابا عبقريا متخصصا فى الرياضيات البحتة، وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة بريطانية كبرى، وكلاهما كانا مثقفين متحمسين يدينان بمرجعيتهما الفكرية والأيديولوجية لأدبيات الفكر الماركسى، وينطلقان فى معالجاتهما النقدية ومفاهيمهما النظرية من أسس نظرية الانعكاس الماركسية.

ــ 4 ــ
غير الكتاب السابق، لمحمود أمين العالم كتاب آخر أنيق الحجم يقع فى 392 صفحة من القطع الأصغر من المتوسط، لكنه جميل وممتع للغاية، وزاخر بالسياحات المعرفية والفلسفية، وتحليل الأفكار لنخبة من ألمع وأهم المبدعين والمثقفين والنقاد والمفكرين المصريين والعرب وفى العالم أيضا، على مدى قرن كامل.
هذا الكتاب عنوانه «الإنسان موقف» (صدر للمرة الأولى فى بيروت عام 1971) وهو يضم عددا وفيرا من المقالات والدراسات التى كتبها فى مناسباتٍ متفرقة عن شخصياتٍ وأعلام لها إسهامها الفكرى والنقدى والمعرفى الكبير. 38 شخصية تراوحت بين مبدعين عالميين، ونقاد ومفكرين وسياسيين، وتوقف تفصيلا عند بعض أبرز أسماء من تخصصوا فى الدرس الفلسفى من الأعلام الكبار؛ كتب عن على سامى النشار وكتابه عن «مناهج التفكير لدى العلماء المسلمين»، وكتب عن عبدالرحمن بدوى، وكتب عن فؤاد زكريا، وكتب عن قصة نفس لزكى نجيب محمود، وكتب عن غيرهم.
لم يكن الكتاب الأول الذى يتناول شخصيات يعرض لها بالتحليل أو الكتابة عن جانب أو أكثر من جوانبها، إنما استلفتنى بشدة تلك الطريقة التحليلية الرصينة، وزاوية التناول التى كان يركز عليها المرحوم محمود أمين العالم فى الكتابة، ولم يكن يستنكف أو يأنف من بروز ذاتيته فى هذه الكتابة؛ فكان يبنى معظمها على مناسبة شخصية أو لقاء عابر أو احتفاء بالقيمة أو بمدخل له علاقة بالذاكرة واستدعاءتها.. إلخ، ما اعتبره أحد أشكال الكتابة المتحررة من الجفاف الأكاديمى، والتزمت الأسلوبى، بادعاء الموضوعية والحياد والرصانة!
ورغم ذلك فإنه كان ذا قدرة فذة على استخلاص الأفكار والملامح المنهجية الأساسية فى رؤية هذا المفكر أو ذاك الناقد أو هذا الباحث.. إلخ. كتابته دسمة مكتنزة بالمعرفة والتحليل والعمق، وفيها امتزاج الذاتى بالموضوعى دون تعنت أو افتعال، وفيها المعلومات والإشارات والإحالات، وفيها النظرات النقدية والاختلاف فى الرأى وإبداء الرأى باستقلالية ونزاهة، ولا أنكر أبدا أننى تأثرت بشدة ببعض هذه الطريقة فى معالجة الرؤية الفكرية أو المشروع النقدى أو التصور العام فى الكتابة عن الشخصيات ذات الأثر أو الإنجاز الملموس فى الثقافة والفكر والنقد والإنسانيات عموما.