لحظة مواجهة الحقيقة فى أزمة سد النهضة - مصطفى كامل السيد - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 2:28 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لحظة مواجهة الحقيقة فى أزمة سد النهضة

نشر فى : الأحد 5 يوليه 2020 - 8:10 م | آخر تحديث : الأحد 5 يوليه 2020 - 8:10 م

لست متأكدا أن لحظة مواجهة الحقيقة قد حانت لدى كل الأطراف المهتمة بأزمة سد النهضة فى مصر. هذه الحقيقة كانت واضحة لبعض من تابعوا سلسلة الجهود المصرية للوصول إلى حل عادل ومنصف للنزاع حول مشروع بناء هذا السد، وهى أن الحكومة الإثيوبية ليست على استعداد للتنازل عن موقفها المبدئى وهو أن بناء السد قضية إثيوبية، وأنه لن يعود بضرر جسيم على أى من السودان ومصر، وأن الخلاف حوله هو مجرد خلاف فنى لا يستدعى تدخل مؤسسات سياسية فى أى من الدول الثلاث، ولا أى أطراف خارجية. ومع وضوح هذه الحقيقة ما زال البعض يتعلل بأن من شأن الحوارات أن تقنع الحكومة الإثيوبية بعدالة مطالب الدولتين الأخريين، أو أن مشاركة أطراف أخرى كقوى أو مؤسسات إقليمية أو دولية يمكن أن تكون أكثر فعالية فى الوصول إلى هذا الهدف. ومع أن عرض قضية سد النهضة على مجلس الأمن لم ينته إلى أى قرار كما استمر التعثر فى جهود الاتحاد الإفريقى بعد استئناف مناقشات وزراء الرى وهو ما يوحى بأن الدول الثلاث قاربت على استنفاد كل الوسائل الدبلوماسية فى مناقشة هذا النزاع. إلا أن كثيرا من التعليقات فى مصر على هذه التطورات تفترض أن لحظة مواجهة الحقيقة لم تحن بعد فأصحابها ما زالوا يتمسكون بوهم إمكان التوصل إلى حل مرض لكل أطرافه من خلال خطوات أخرى دبلوماسية أو قانونية، كأن يعقد مجلس الأمن اجتماعا آخر بعد فشل جهود الاتحاد الإفريقى بعد أسبوعين أو ثلاث، أو بنقل القضية للتحكيم الدولى أو أمام محكمة العدل الدولية.
هذه الأطراف المتفائلة تتوهم أن العلاقات الدولية تحكمها المبادئ الأخلاقية، ومن ثم يكفى أن تعرض مصر قضيتها أمام أطراف ثالثة على النحو الممتاز الذى فعله وزير الخارجية سامح شكرى أمام مجلس الأمن يوم الإثنين الماضى لكى يقتنع هؤلاء الأطراف بعدالة الموقف المصرى واتفاقه مع قواعد القانون الدولى، ومن ثم لا يكون أمام الحكومة الإثيوبية سوى الانصياع لهذه الرؤية المستندة إلى مبادئ أخلاقية وقانونية صحيحة. وحتى إن أخفق مجلس الأمن فى العمل على أساس هذه الاعتبارات لأنه مؤسسة سياسية تحكمها المصالح المتعارضة للدول، فأمام مصر اللجوء إلى هيئات تحكم فقط بمقتضى القانون، كلجنة تحكيم أو محكمة العدل الدولية. وهكذا لن يكون أمام الحكومة الإثيوبية وقد بدا الحق ناصعا كضوء الشمس إلا أن تنزل على حكم أى منها. ويطرح آخرون أسبابا أخرى للتمهل قبل الاستنتاج بأن الأساليب الدبلوماسية قد بلغت منتهاها، فيستندون إلى أن الملء الأول للبحيرة خلف السد خلال شهر يوليو سوف يكون متواضعا للغاية، ولن يلحق أضرارا كبيرة بمصر، ومن ثم يمكن للحكومة المصرية أن تعطى للجهود الدبلوماسية وقتا أطول، لعل وعسى أن تثوب الحكومة الإثيوبية إلى رشدها خلال هذه الشهور الإضافية، وهكذا يكون الصبر هو مفتاح الفرج فى هذه الأزمة المعقدة.
يسود لدى هذه الأطراف تصور عن علاقات الدول يختلف كثيرا عن واقعها فى كل العصور، ولا ينطبق بكل تأكيد على وضعها الراهن بعد انتهاء الحرب الباردة، وخصوصا بعد انقضاء اللحظة القصيرة التى سميت بالهيمنة الأمريكية فى تسعينيات القرن الماضى بعد سقوط الاتحاد السوفيتى وانفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم فى ظل إدارتى كل من جورج بوش الأب وبيل كلينتون. علاقات الدول لا تحكمها لا الأخلاق ولا قواعد القانون الدولى إلا إذا كانت خلفية هذه القواعد توازن القوة فى النظام الدولى. والنظام الدولى ليس مثل النظام الداخلى، فلا مجلس الأمن يمثل حكومة، ولا تلتزم الدول باللجوء إلى محكمة عليا هى محكمة العدل الدولية، بل ولا تملك المحكمة فرض أحكامها على حكومات لا ترضى عن هذه الأحكام، إن لم يقرر مجلس الأمن بإجماع الدول ذات المقاعد الدائمة فيه على إنفاذها، وهو شرط مستحيل. والأهم من ذلك، هو أنه فى ظل التنافس على قيادة العالم وعدم بلورة قواعد لهذه القيادة أصبحت شريعة الغاب هى التى تحكم العلاقات الدولية، ويكون الكسب فى هذه العلاقات لمن ينجح فى فرض إرادته على أطراف الصراع الأخرى بالقوة المسلحة أو السيطرة على الموارد أو بابتزاز هذه القوى بدفعها إلى حافة هوة الصراع التى تخشى الوقوع فيها، يستوى فى ذلك أن يكون هذا الطرف دولة كبرى كالولايات المتحدة أو روسيا أو قوى إقليمية مثل كل الدول غير العربية فى الشرق الأوسط والتى انضمت لها إثيوبيا أخيرا.
ماذا تفعل حكومتنا فى عالم اللئام؟
القناعة الأولى التى يجب أن يسترشد بها صانع سياستنا الخارجية هى أن العلاقات الدولية فى لحظتها الراهنة لا تحكمها الأيديولوجيات، ولا حتى الانضمام إلى تحالفات دولية مستقرة، تستوى فى ذلك الجامعة العربية والاتحاد الأوروبى، وإنما تحكمها ما يمكن تسميته تجاوزا المصلحة الوطنية كما يراها من يحكم كل دولة فى لحظة معينة، والذى قد لا يتفق معه فيها أعضاء نخبتها السياسية، ولنا فى كل من تركيا والولايات المتحدة أوضح دليل. كما أنه لا توجد رؤية شاملة لهذه المصلحة، فما قد يراه من يسيطر على صنع السياسة الخارجية مصلحة لدولته فى موقف معين كمساندة حليف فى هذا الموقف، قد يتناقض مع ما يراه فى مصلحتها فى موقف آخر يختلف فيه مع نفس هذا الحليف. هذا وضع دولى يتسم بسيولة فائقة فى مواقف الدول ورؤيتها لمصالحها. ولذلك لا يجب أن نندهش عندما نرى دولة صديقة لنا فى مواقف معينة، تتخذ موقفا معاديا لنا أو لا يكترث بمصالحنا فى موقف آخر.
كيف نخاطب القوى الدولية والإقليمية؟
علينا إذن أن نخاطب القوى الدولية والإقليمية بحسب مصالحها، ونظهر لها أنها كما يمكن أن تستفيد من علاقاتها معنا، يمكن لنا أيضا أن نقلل من هذه المصالح، وربما لصالح دول أخرى تتخذ منا موقفا ملائما فى نفس القضية التى لا نتفق فيها مع هذه الدولة.
لا أظن أنه يمكن لنا أن نطلب المزيد من الدول الغربية الكبرى الثلاث وهى الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا. قامت إدارة ترامب بأقصى ما يمكن أن تقوم به باستضافتها لاجتماعات واشنطن بمشاركة البنك الدولى والتى انتهت بمشروع اتفاق لم ترض عنه إثيوبيا، وهو فى رأيى أفضل ما يحقق مصالحنا فى الاستخدام المنصف والمعقول لمياه النيل، ولا تملك الولايات المتحدة ولا فرنسا ولا بريطانيا أدوات ضغط على الحكومة الإثيوبية تجعلها تعدل عن مواقفها معنا، كما أن استخدام مصر لمياه النيل ليس قضية حيوية ومباشرة لهذه الدول. وقد ساندتنا فرنسا رئيس مجلس الأمن الشهر الماضى بالدعوة لجلسة خاصة للمجلس لمناقشة هذا النزاع، ودعا مندوب بريطانيا إلى التوقف عن اتخاذ إجراءات أحادية تضر بإمكانية الوصول إلى اتفاق.
ولكن القوى الدولية والإقليمية التى يمكن أن تؤثر على الموقف الإثيوبى هى كل من الصين وروسيا وإسرائيل، ولكل منها مصالح كبرى معنا. الشركات الصينية تشارك فى بناء السد، والصين هى التى تتولى مد شبكة الكهرباء التى ستنقل الطاقة المولدة من السد إلى أنحاء أخرى فى إثيوبيا، وبدون التعاون مع الصين، ربما كان بناء السد ومشروعات الكهرباء المرتبطة به سيتعثر كثيرا. وكل من روسيا وإسرائيل لها علاقات قوية ولكن ليست كبيرة مع إثيوبيا، لكنها علاقات ذات أهمية استراتيجية فى حماية السد. كل منهما قدم لإثيوبيا نظام دفاع صاروخيا مضاد للطائرات، كما تساهم روسيا فى تزويد إثيوبيا بالمعرفة والمعدات فى المجال النووى، ليس فقط ببناء محطة طاقة نووية ولكن كذلك بتشييد مفاعل نووى، وهو الأهم لأى دولة تتطلع لأن تكون قوة نووية. فضلا عن المساعدة فى مجال الطاقة والتسليح. أما إسرائيل فقد أعلن رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو عن تأييده لموقف إثيوبيا فى قضية السد فى الخطاب الذى ألقاه فى البرلمان الإثيوبى فى ٧ يوليو ٢٠١٦، وتوفر إسرائيل لإثيوبيا العون فى تطوير قدراتها السيبرانية، وهو ما اتفق عليه أثناء زيارة رئيس الوزراء الإثيوبى لإسرائيل فى سبتمبر العام الماضى، وهو موضوع اهتمام شخصى لآبى أحمد.
لا يجب أن تتردد حكومتنا فى إبلاغ حكومات الدول الثلاث بأن حدود مصالحها معنا تتحدد بمدى مساعدتها لنا فى تليين الموقف الإثيوبى. مصر مهمة بالنسبة للصين فى تنفيذ مشروعها الطموح المعروف بالحزام والطريق والذى يعبر مصر فى الطريق إلى أوروبا، وهو يحقق مصلحة كبرى للصين بمد استثماراتها عبر نطاق واسع من شرق الصين إلى جنوب وغرب أوروبا من خلال قناة السويس والبحر الأبيض. يمكن أن نتمهل فى تنفيذ هذا المشروع فى عبوره لأراضينا ومياهنا. وهناك استثمارات كبيرة لروسيا فى مصر تفوق بكثير حجم استثماراتها فى إثيوبيا والذى لا يتجاوز بضع مئات الملايين من الدولارات، بالمقارنة بحجم الاستثمارات الروسية فى بلدنا والذى يتجاوز سبعة ونصف مليار دولار فضلا عن العلاقات العسكرية وبناء أربع محطات قوى نووية والتنسيق السياسى وتقارب مواقف الدولتين من العديد من القضايا. بيروقراطيتنا العريقة قادرة على شل فعالية التعاون مع روسيا فى أى من هذه المجالات ومع مواجهة الروس بابتسامة عريضة. وإذا كان قطاع السياحة عندنا قد بدأ يتعافى بدون السياح الروس العام الماضى، فيمكنه مواصلة الصمود فى المستقبل كذلك. أما إسرائيل فلعلكم أعزائى القراء تدركون أن صوت حكومتنا كان خافتا فى الاحتجاج على مشروعات الضم للضفة الغربية التى ما زال رئيس الوزراء الإسرائيلى مصرا عليها. تأييدنا للحقوق المشروعة للفلسطينيين لا يجب أن يكون موضوعا للمساومة لأنه بالفعل يستند إلى اعتبارات أخلاقية وقانونية فضلا على أنه مصلحة مباشرة لأمن مصر. ولكنه أيضا رسالة واضحة لحكومتها.
التواصل مع الحكومات والشعوب الإفريقية
لن أتحدث عما يمكن أن نطالب به الحكومات العربية خصوصا تلك صاحبة الاستثمارات الكبيرة فى إثيوبيا فقد تولت ذلك أقلام كثيرة، وقد أيدت جامعة الدول العربية موقف كل من السودان ومصر فى هذه القضية، ولكنى لا أفهم استسلام الدبلوماسية المصرية لمقولة أن الحكومات الإفريقية غير العربية تساند الحكومة الإثيوبية، هل يبرر ذلك توقفنا عن التواصل مع هذه الحكومات؟ وهل من الصحيح أن عرض الأمر على مجلس السلم والأمن بالاتحاد الإفريقى كان مبادرة من جانب رئيس جنوب إفريقيا. لا يجب أن نستسلم لهذه المقولة. إذا كان هناك هذا التخوف من تعاطف الدول الإفريقية مع إثيوبيا فلماذا لا نحاول على الأقل أن نشرح موقفنا لهذه الحكومات. لقاء بين وزير الخارجية المصرية وكل سفراء الدول الإفريقية فى القاهرة يعرض فيه موقف مصر على النحو المنطقى والمقنع والصحيح الذى عرضه به على مجلس الأمن يمكن أن يبين لهذه الدول أننا نحترمها، ونتواصل معها، ولا نهمشها ونحن طرف مؤسس لمنظمتها الإقليمية وكنا نرأسها العام الماضى. لقد لاحظت أن خطاب مندوب النيجر فى جلسة مجلس الأمن كان أكثر تعاطفا مع الموقفين المصرى والسودانى، فلماذا نيأس من أن يكون لموقفنا العادل آذان صاغية فى القارة التى ننتمى إليها.
الخلاصة هى أن التسلح بالخيال والجرأة ومد علاقات التضامن مع الشعوب العربية والإفريقية والعودة إلى الدوائر الثلاث للسياسة الخارجية المصرية ليس مغامرة طموحة، ولكنه استثمار يفيد فى الأيام الصعبة فى السياسة الخارجية.

مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
التعليقات