بعد مرور ثلاثة أشهر على عملية طوفان الأقصى، لا يزال سؤال «من يحكم غزة؟» بلا إجابة محددة ويبقى موضع خلاف حاد بين كل أطراف اللعبة! فلا إجابة واضحة لدى قادة السياسة والحرب فى إسرائيل، ولا رؤية متماسكة ومحددة من قبل الأمريكان أو الاتحاد الأوروبى، فضلا عن العالم العربى، وكذلك الداخل الفلسطينى! والسبب فى ذلك ببساطة، أن كل أطراف النزاع لا يعلمون مواقعهم ووزنهم السياسى بعد انتهاء الحرب الإسرائيلية على غزة، فضلا عن أن موعد انتهاء الحرب غير واضح من الأصل فى ظل سيولة الوضع على الأرض واختلاف حسابات كل الأطراف، بل والخلافات الحادة والتناقضات داخل كل معسكر!
كذلك فإن واحدة من أهم المعوقات التى تقف أمام تقديم إجابة لهذا السؤال، هو ابتعاد كل من حماس وحكومة نتنياهو عن تحقيق ما اعتبروه نصرا وبشروا به عند بداية الحرب، فلا حماس حررت فلسطين من النهر إلى البحر كما ادعت وغازلت الجماهير العربية عند بداية عملية طوفان الأقصى، بل على العكس تم تدمير القطاع برمته وفقدت حماس بعض قياداتها العسكرية والسياسية، ولا نتنياهو وحكومة حربه استطاعوا حتى الآن تدمير حماس بشكل كامل كما ادعت عندما بدأ الهجوم على غزة والضفة فى نفس ذلك اليوم!
• • •
داخل إسرائيل، هناك الكثير من اللغط بسبب تأخر «النصر» والكلفة الباهظة الاقتصادية والإنسانية التى تتكبدها تل أبيب يوميا منذ السابع من أكتوبر، وسط اتهامات لبنيامين نتنياهو وحكومته بإطالة أمد الحرب للتغطية على فشله السياسى والأمنى ومحاولة صرف النظر عن محاسبته على هذا الفشل، هذه المحاسبة التى تبدو أنها قادمة لا محالة مهما حاول إطالة الحرب! وبينما يواصل نتنياهو عمليته العسكرية على غزة، يبحث مع مستشاريه الكيفية التى سيتم بها حكم القطاع بعد انتهاء الحرب! ولأنه يعلم أنه سيكون من الصعوبة بمكان أن يعيد احتلال غزة كما كان الوضع قبل عام ٢٠٠٦، فهو يبحث عن أى مخرج تتنصل فيه إسرائيل من مسئوليتها تجاه القطاع والسكان المدنيين فيه وتصدر المسئولية إلى مصر والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى وباقى أعضاء المجتمع الدولى، مع احتفاظ إسرائيل بالسيطرة على الحدود من أجل الدفاع عن الدولة، كما يروج ويحلم!
أعضاء حكومته من المتطرفين الدينيين والسياسيين، بالتوازى يحاولون تهجير سكان القطاع والتخلص من كابوس غزة، ويحلمون بأن تصبح غزة قطعة أرض خالية من سكانها فيتمكن الإسرائيليون من ضمها بشكل نهائى مع سيناريو مماثل يحلمون به فى الضفة الغربية! ورغم تطرف مثل هذه الأفكار ووقوف العديد من الدول، وفى مقدمتها مصر والأردن ضدها، بل وحتى تعبير الإدارة الأمريكية عن رفض صريح ومعلن لها، إلا أن هؤلاء الوزراء لا يتوقفون عن أحلامهم الواهية ويحاولون الترويج لفكرة موازية يسمونها «التهجير الطوعى»، عن طريق توفير فرص هجرة للسكان المدنيين الفلسطينيين الراغبين فى الهجرة من القطاع لبعض الدول التى تقبل هجرتهم وتتفاوض إسرائيل معها!
وفى حين لا يضع نتنياهو تصورا سياسيا واضحا لحكم غزة بعد الحرب، ربما لأنه هو نفسه يعلم أن نهاية الحرب بأى نتيجة يعتبرها مكسبا أو خسارة تعنى انتهاء حياته السياسية وتسليم السلطة إلى قيادة أخرى، إلا أن القيادات العسكرية فى حكومته وفى مقدمتهم وزير الدفاع، يوآف جالانت، يضعون تصورا أكثر تحديدا قدموه إلى مجلس الوزراء المصغر يوم الخميس الماضى ويتضمن بحسب صحيفة The Jerusalem Post البحث عن سلطة جديدة لحكم القطاع! وفقا لهذا التصور، فإن رؤية القيادة العسكرية فى إسرائيل تستبعد حماس أو أى حركة مقاومة أخرى من حكم القطاع، كما تستبعد السلطة الفلسطينية من الأمر ذاته، وتبحث عن قيادات مدنية جديدة ليس لها انتماءات أيدولوجية لحكم غزة!
• • •
التقارير الإسرائيلية أشارت إلى خلافات حادة اندلعت داخل حكومة الحرب الإسرائيلية حول خطة جالانت، فبينما يفضل بعض أعضاء الحكومة والقيادات السياسية فى إسرائيل التعامل مع السلطة الفلسطينية وفى مقدمتهم بنى جانتس رئيس الوزراء ووزير الدفاع الأسبق وزعيم الائتلاف المشارك فى حكومة الوحدة مع حزب الليكود! يرى جانتس أن أفكار جالانت غير قابلة للتطبيق، وأن إيجاد زعيم أو قيادة سياسية مدنية فى غزة غير مدينة بالولاء لحماس ولا للسلطة الفلسطينية وتملك خبرات لإدارة القطاع هو أمر شبه مستحيل!
يعتقد الكثيرون أن بنى جانتس هو الأقرب لقيادة الحكومة الإسرائيلية بعد الحرب ومن ثم فإن رغبته فى إعادة التعامل مع السلطة الفلسطينية والاعتماد عليها فى قيادة القطاع قد تكون هى الفكرة الأقرب للتطبيق، وخصوصا وأنها تلقى دعما من الولايات المتحدة وإدارة بايدن، كما أن الدول العربية وفى مقدمتها مصر والأردن تفضل التعامل مع السلطة الفلسطينية وترفض استبعاد الأخيرة تماما من أى معادلة مستقبلية لحكم القطاع!
لكن لماذا يرفض جالانت والقيادات العسكرية والسياسية المتشددة فى إسرائيل التفكير فى التعامل مع السلطة الفلسطينية؟ الحقيقة أن التقارير الواردة تقول إن جالانت لا يريد مقاطعة السلطة الفلسطينية تماما، ولكنه لا يفضل الاعتماد عليها كلية فى إدارة القطاع، والسبب فى ذلك أنه يرى أن عودة السلطة الفلسطينية إلى قيادة القطاع تعنى عودة معادلة حل الدولتين مرة أخرى، فالسلطة الفلسطينية ومعها الدول العربية والولايات المتحدة ــ حال استمر بايدن فى الحكم ــ ستضغط فى هذه الحالة لربط الضفة بغزة فى دولة فلسطينية مستقلة، وهو الأمر الذى كانت إسرائيل تسعى جاهدة لإعاقة حدوثه عبر تعميق الفجوة بين حماس فى غزة والسلطة الفلسطينية فى الضفة، فقد كان ذلك أكبر ضمانة لإسرائيل لتعطيل قيام دولة فلسطينية موحدة، أما الآن فعودة السلطة الفلسطينية تعنى عودة الحديث عن دولة فلسطينية مستقلة، وهو أمر لا تؤمن به القيادات الإسرائيلية ولا تريده!
• • •
لكن أين ستكون حماس من أى معادلة مستقبلية لحكم القطاع؟ فى الوقت الذى تحاول فيه القيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية استبعاد أى سيناريو لوجود حماس فى المعادلة السياسية المستقبلية اعتمادا على أنها لن تنهى الحرب على غزة قبل هزيمة حماس، إلا أن التحليلات الواقعية ترى أن الأمر ليس بهذه البساطة! فمن ناحية، صحيح أن هناك تقدما فى عمليات اغتيال قادة حماس فى غزة ولبنان وربما قريبا فى أماكن أخرى من العالم، وصحيح أن العديد من عناصر حماس قد تم القضاء عليهم فى ميدان المعركة، ولكن من غير الواضح حتى اللحظة ما إذا كانت إسرائيل تستطيع إنهاء وجود الحركة تماما حتى بفرض قتل كل قادتها، فضلا عن أن وجود أجيال جديدة من المتأثرين ببرنامج حماس السياسى أو من الذين يدينون بالولاء لها أمر لا يمكن استبعاده فى المستقبل!
كذلك فلا يبدو أن السلطة الفلسطينية ــ حتى بفرض موافقة إسرائيل ــ سيكون لديها قدرة كاملة على قيادة القطاع المدمر، فالسلطة لديها قيادات طاعنة فى السن، ومن غير الواضح بعد مستقبل قيادة السلطة وتوجهاتها حال غياب أبو مازن عن المشهد أو عدم قدرته على القيادة، وهو ما يعنى، أن السلطة نفسها حال قبلت حكم القطاع مستقبلا، سيكون عليها الإجابات على الكثير من الأسئلة وفى مقدمتها العلاقة مع حماس، أو بقايا الأخيرة بعد انتهاء الحرب وليس هناك إجابات حتى الآن لديها!
• • •
لا يبدو حتى اللحظة أن أحدا يملك رؤية واضحة لمستقبل القيادة السياسية فى القطاع، لكن المؤكد أن الضغوط الأمريكية تتزايد على إسرائيل من أجل إنهاء الحرب فى أقرب وقت، وفى هذا السياق تأتى زيارة وزير الخارجية الأمريكى، مطلع هذا الأسبوع إلى المنطقة، والتى من المتوقع أن يعيد فيها طرح الرؤية الأمريكية الرسمية لمستقبل القطاع، وطريقة إنهاء الحرب أو التوصل إلى هدنة طويلة الأمد!