ليست المرة الأولى التى أتناول فيها الجوانب الاقتصادية للمواسم والشعائر الدينية، ولن أمل تكرار المناداة بكبح الغرائز الاستهلاكية التى يشتعل سعارها فى مواسم إيمانية وتعبدية، أراد الله لها أن تلقى فى النفس صورا من الزهد والورع مضادة تماما للشره والإسراف اللذين يتملكان الناس فى شهر رمضان الكريم.
فى الغرب المتقدم تنشط أسواق منتجات بعينها، ارتبطت فى ذهنية المستهلك باستقبال المواسم المختلفة. فينشط مثلا سوق بيع الديك الرومى فى عيد الشكر بالولايات المتحدة الأمريكية حيث يحتفل به 88% من الشعب الذين يستهلكون فى العام الواحد 30% من إجمالى ما يتم تربيته من هذا المنتج الداجن خلال العام، وكذلك منتجات البيض والحلوى التى تنشط أسواقها فى عيد الفصح والتى قدرت قيمة احتفالات 81% من الأمريكيين بها هذا العام بنحو 18.2 مليار دولار من المشتريات (وفقا لواشنطن تايمز الأمريكية). من المقبول أيضا أن نرى بالمثل ارتفاع مبيعات الخراف فى موسم عيد الأضحى بالدول الإسلامية، فضلا بالتأكيد عن مصروفات الحج التى أصبحت عبئا كبيرا على موازين مدفوعات كثير من الدول مثل مصر لصالح الدولة المستضيفة للشعائر وهى المملكة العربية السعودية. وفى شهر رمضان المعظم تنشط أسواق بيع منتجات مرتبطة بالشهر مثل العصائر والفوانيس (فى بعض الدول) وبعض أنواع الحلوى مثل القطائف... وهذا أيضا يمكن فهمه وتقبله.
***
لكن العجيب أن تنشط أسواق منتجات لا علاقة لها بالموسم الكريم، بل وتتعارض تماما مع القيم الإيمانية التى من أجلها كتب الله الصيام. كأن ينشط استهلاك منتجات المعسل والدخان، وخدمات الترفيه المختلفة فى الخيمات الرمضانية ومنتجات الأعمال الدرامية مثلا، بل وجميع أنواع الطعام والشراب التى من المفترض أن ينخفض استهلاكها فى شهر رمضان، كنتيجة منطقية لانخفاض ساعات تناولها طوال اليوم. كذلك يتحول الشره الاستهلاكى إلى سلوك آخر أشد ضررا بالمجتمع وهو تخزين المواد الغذائية من قبل المستهلكين والتجار، الذين يحتكر بعضهم منتجا بعينه بغية التحكم فى إمداداته طوال الشهر!
لست فى حاجة إلى قراءة هذا المقال أو غيره للتأكد من صحة ما أدعيه فى تلك السطور. كل ما عليك هو التوجه اليوم أو خلال الثلث الأول من شهر رمضان إلى أى منفذ لبيع المنتجات الغذائية، وسوف تواجه بمشهد مربك يشبه إلى حد بعيد مشاهد التزاحم على المؤن فى أوقات الحروب والمجاعات لا قدر الله! تدافع البشر يوحى بأنهم يعتزمون تعويض كل ساعة صيام بمثل استهلاكهم العادى فى غير رمضان، وكأنهم فى حالة تحد للفريضة وصراع معها من أجل الإجهاز على فلسفتها ومقاصدها بلا هوادة.
الأزمة فى التعامل مع هذا السلوك المستشرى المجسد للأنانية والأثرة، أن من ألزم ذاته التعفف والزهد لن يجد لنفسه ولا لأسرته مكانا لقضاء شهر رمضان بسكينة واطمئنان وعزوف عن السَرَف والشره! فهو أشبه بهذا الكائن الوادع الذى أبى أن يتدافع نحو البنوك لسحب ودائعه عند حدوث ذعر مصرفى bank rush فهو بالتأكيد أكبر الخاسرين كما علمنا أحد كبار الخبراء الاقتصاديين العاملين فى صندوق النقد فى إحدى محاضراته. تزاحم الناس على منتجات الطعام والشراب وتخزينهم لها يؤذى المجتمع كله، يحرم مختلف أفراده من الحصول على احتياجاتهم الروتينية بأسعار معتدلة، يغرى بالمحتكر أن يخلق ندرة مفتعلة فى الأسواق. وتتراكم فوائض الغذاء فى مخازن البيوت والمحال، بينما تخلو كثير من موائد الصائمين من بعض المكونات الضرورية، وفى هذا كله إيذاء وإفراط يفوق عقابه عند الله التفريط فى ركن الصيام نفسه، والعلم لله.
***
أنت إذن ملزم بالسيطرة على نفسك والتأثير فى محيط عملك ودراستك وجيرانك من أجل التوقف عن تلك العادات السيئة التى تفسد الشعائر ونفحات الأشهر العطرة. والدولة ملزمة بنهج مسار للتوعية العامة على المنابر وفى وسائل الإعلام المختلفة، للتوقف عن تخزين الطعام والنهى عن التزاحم فى الأسواق وتعبئة عربات التسوق عن آخرها، مع التأكيد على تجريم الممارسات الاحتكارية والحض على الإبلاغ عنها فورا. وكذلك التأكيد على أن احتياجات المستهلك متاحة طوال الوقت وخلال الشهر بكميات كبيرة تفيض عن معدلات الاستهلاك المتوسطة فى سائر شهور العام، ولا حاجة إلى تخزينها خلال وقبل بداية المواسم.
تلك السلوكيات نراها أيضا فى موسم الحج، بل وفى أقدس البقاع وأثناء أداء الفريضة الكبرى عندما يقوم بعض الحجيج بتخزين أطعمة «البوفيه» المفتوح فى غرفهم وفى رحالهم حتى تفسد، وما أغناهم عن هذا وكل احتياجاتهم متاحة بوفرة ودون عناء فى مختلف أماكن إقامتهم!.
بقى أن أشير أيضا إلى ما نكرره كل عام من ضرورة الاعتدال فى جمع التبرعات عبر وسائل الإعلام، والذى تروج تجارته بشكل لافت فى شهر رمضان وبتكلفة كبيرة تفوق ما يتم إنفاقه فعلا على رعاية المرضى والأيتام وأصحاب الحاجات. كما أؤكد على ضرورة الإفصاح عن مصروفات وإيرادات المؤسسات الجامعة للتبرعات والصدقات على نحو تفصيلى يتيح للمتبرع والمزكى والمتصدق أن يقرر أى الجهات أولى بأمواله.
انتشار هذا النوع من السلوكيات لا يصم كل العباد بتلك المثالب، ولا يحط من مقدار الخير والتراحم والتكافل الذى نلمسه بين الناس فى مختلف أيام الله التى نتعرض فيها لنفحات الخير والبركات. لكنها النصيحة التى اختصر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الدين فيها، عندما قال فى حديث رواه مسلم: «الدين النصيحة»، وعن النعمان بن بشير رضى الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين فى أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا فى نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا« (رواه البخارى).