نادرا ما أكتب فى هذه المساحة عن الشأن الخاص، فالمساحة بالأساس مخصصة للشأن العام، ولكن قد يكون من المهم من وقت لآخر مشاركة القارئ والقارئة فى الحديث عن بعض الأمور الشخصية وخاصة إذا ما تقاطعت مع الشأن العام!
يمكن اعتبار مساهماتى المتواضعة فى صفحات جريدة الشروق منذ المقالة الأولى التى كتبتها هنا ونشرت فى يوم الجمعة ١٠ أغسطس من عام ٢٠١٢ بعنوان «وماذا نفعل فى اليوم ١٠١ يا سيادة الرئيس؟» وكانت عن برنامج الرئيس الأسبق محمد مرسى فيما عرف باسم برنامج «المائة يوم»، وحتى وقت نشر هذه المقالة، هى تعبير عن تغير شخصيتى وفكرى وفى نفس الوقت يمكن اعتبار هذه السنوات العشر تعبيرا عن تغير الشأن العام المصرى صعودا وهبوطا، إيجابا وسلبا، سلما وعنفا!
• • •
كان لثورة يناير فضل كبير على جيلى من مواليد النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضى فقد كنا فى أوائل الثلاثينيات لا نرى الكثير من الأفق أمامنا ثم فتحت لنا ثورة يناير الأفق والأمل والترقى وخاصة لأمثالى من أبناء الطبقات الوسطى المحافظة ممن ليس لهم أسماء عائلات كبيرة أو أقارب فى مناصب مهمة أو تربيطات خاصة تمكنهم من الصعود والترقى الاجتماعى.
كنت عائدا إلى مصر بعد سنوات طويلة من الغياب فى اليابان لدراسة الماجستير والدكتوراه وعدت لأجد كل الأبواب مفتوحة لمن يريد المساهمة فى الشأن العام ولديه حد أدنى من المهارات والرؤية! لا أدعى قطعا امتلاكى لرؤية كاملة وقتها، ولكن كان لدى طموح ورغبة فى الكتابة والمساهمة فى صناعة الرأى العام.
كنت متأثرا فى سنوات نظام مبارك بالكتابات المستقلة للأستاذين فهمى هويدى وبلال فضل حيث كنت أقرأ لهما فى «الأهرام» ثم «الشروق»، و«الدستور» و«المصرى اليوم» على الترتيب، ثم أصبح لى مساحتى الخاصة فى الشروق بعد أن استكتبنى الأستاذ الفاضل جميل مطر، وأصبحت أكتب إلى جانب أساتذتى فى كلية الاقتصاد بجامعة القاهرة نيفين مسعد ومصطفى كامل السيد وعمرو حمزاوى (مع حفظ الألقاب) وغيرهم من كتاب الشروق المرموقين.
شهدت كتاباتى نقدا لفترة حكم الإخوان المسلمين ثم تخوفا شديدا من انهيار الديموقراطية بعد ٣٠ يونيو ٢٠١٣ ورغم إصابة الكثيرين من كتاب الرأى فى مصر بالخوف أو بالهيستريا والتشنج بسبب أعمال العنف السياسى والإرهاب التى اندلعت بعد عزل الإخوان من الحكم وتغير الخريطة السياسية فى مصر بشكل درامى خلال أشهر قليلة، إلا أن جريدة الشروق كانت من المنابر القليلة التى حافظت على أكبر مساحة ممكنة من حرية الكتابة فى حدود ما هو متاح. كانت كتاباتى معظمها فى تلك الفترة متعلقة بقضيتى الديموقراطية وحقوق الإنسان ورغم تعالى بعض الأصوات وقتها بأنها قضايا ليست مهمة، تمسكت ومعى آخرون بالرأى القائل إنها قضية لا تحتمل التأجيل وأنها بالأساس من أجل مصلحة مصر شعبا ونظاما وأرضا وليس من أجل إرضاء أى قوى إقليمية أو دولية أخرى!
• • •
مع نهاية عام ٢٠١٤، بدأت ظروف الشأن العام تضيق تدريجيا وبدأت قضايا الحريات وحقوق الإنسان تتراجع بشكل أكبر من السنوات السابقة، ومع تلك الضغوط فكرت فى اعتزال الكتابة نظرا لأننى لم أكن أرى الكثير من الأفق فى ظل الاستقطابات الشديدة التى لم تكن تتحمل الآراء الأكاديمية أو المحايدة أو المستقلة فأنت إما معى وإما ضدى! وخاصة بعد أن أصبحت من غير المرغوب بهم للظهور فى شاشات الإعلام المصرى، وإن كنت لا أنسى الأصدقاء الأعزاء يوسف الحسينى وليليان داوود وعمرو خفاجى وغيرهم الذين كانوا من قلائل يصرون على استضافتى للتعبير عن رأيى بحرية فى تلك الفترة العصيبة!
فى تلك الظروف تمسك بى المهندس إبراهيم المعلم ومعه الأستاذان جميل مطر وعماد الدين حسين وأقنعونى بالإقلاع عن الفكرة والتمسك بأى مساحة ممكنة من أجل الصالح العام مهما كانت المساحات محدودة ومهما بدا الأفق السياسى مسدودا.
بعد إجازة قصيرة عدت للكتابة مرة أخرى وهذه المرة ومع بعض النضج من خبرات الحياة وخصوصا بعد سفرى فى نهاية عام ٢٠١٤ فى تجربة وتحدٍ أكاديمى وبحثى جديد إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بدأت الكتابة عن السلطوية لا عن الديموقراطية، بدأت فى البحث عن المساحات التى يمكن أن يتم فتحها فى ظل الظروف المحلية والإقليمية والتى تراجعت فيها ما عرف بثورات الربيع العربى بين خفوت وانهيار وحروب أهلية وتدخلات دولية وإرهاب آثم أراق الدماء واستحلها! ورغم مزايدة بعض الزملاء فى المجال الأكاديمى على سبب موضوع «السلطوية التعددية» التى طرحتها فى تلك الفترة باعتبارها فرصة للخروج من الأوضاع القائمة وقتها، إلا أننى كنت أرى أنى أكتب للصالح العام بواقعية وقناعة داخلية.
بعد أن أنهيت الكتابة عن السلطوية التعددية، لم أعد أعرف ما الذى يمكن كتابته والمساهمة به فى الشأن العام! كان أمامى ثلاثة طرق، إما أن تكون كتاباتى مجرد رد فعل على بعض الأحداث الدولية والإقليمية مع تجنب الكتابة عن الشأن المصرى لحساسية الكتابة فى تلك الفترة عن الأمور السياسية، وإما أن أكتب مع التيار وأتحول إلى ترزى كلمات ومقالات أوظف فيها علمى ومعرفتى المتواضعة فى تطويع الأفكار لتناسب المرحلة كما فعل بعض الزملاء، وإما الطريق الثالث والأخير وهو أن أتحول من الكتابة عن الشأن العام إلى الكتابة عن تاريخ بعض الظواهر السياسية فى شكل سلسلة مقالات يمكن أن تتحول لاحقا إلى كتب! وهكذا قررت اتخاذ الطريق الأخير لأنه أشعرنى أنه الأنسب، سأحترم نفسى وأحترم القارئ والقارئة وأحترم علمى المتواضع دون أن أتورط فى التفصيل والقص واللزق أو النفاق ومجاراة المواقف والظروف، حتى لو ضد قناعاتى!
وبالفعل، بدأت السلسلة الأولى عن تاريخ الإسلام والسياسة، ثم السلسلة الثانية عن تاريخ مصر الحديث والتى هى فى طريقها للتحول إلى كتاب يصدر عن دار الشرق قريبا، والآن أنا فى السلسلة الثالثة عن تاريخ السياسة الدولية منذ القرن العشرين. كل سلسلة استمرت عاما تقريبا وأشعرتنى ببعض الراحة النفسية، صحيح أنها كتابات قد تبدو ثقيلة بعض الشىء، وربما ليس لها الكثير من القراء، ولكنى بذلت بعض الجهد لأجعلها مبسطة، إيمانا منى أن فى قراءة التاريخ فرصة لإعادة تمعن المعانى واختبار للثوابت وفهم للحاضر، وربما استشراف ملامح من المستقبل!
• • •
الآن وبعد حدوث بعض الانفراجات فى الشأن السياسى المصرى وخاصة بعد الدعوة للحوار الوطنى من رئيس الجمهورية ومع الإعلان عن عدم استبعاد أحد من المعارضين مادام لم يتورط فى إراقة الدماء، ومع سلسلة الإفراجات المتتالية التى تعطى المزيد من الأمل والثقة فى جدية الإصلاح السياسى أو على الأقل حلحلة الوضع السياسى الذى استمر لسنوات محكوما بالاعتبارات الأمنية فقط دون السياسية، فإن الأمل قد عاد لكتاباتى وكتابات غيرى فى الفترة القادمة والتى أتصور ــ وأتمنى ألا أكون مخطئا ــ أنها ستشهد الترحيب وفتح المزيد من المساحات أمام الكتابة الحرة المستقلة طالما أنها لم تتورط فى تحريض على العنف ولم تخالف القانون والدستور.
كنت فى السنوات السابقة أشعر بالحرج من نفسى وأنا لا أستطيع الكتابة عن أصدقاء فى السجون لأسباب مختلفة، منهم من خرج مثل حسام مؤنس ومحمد صلاح وغيرهما الكثيرون، ومنهم من ما زلت آمل أن يحصلوا على عفو رئاسى أو إفراج مبكر بعد قضاء نصف المدة أو ثلاثة أرباعها أو على الأقل أن تتحسن ظروف محبسهم وفقا لما تنص عليه لوائح مصلحة السجون المصرية مثل عمر الشنيطى وزياد العليمى وعلاء عبدالفتاح وإسماعيل الإسكندرانى وغيرهم الكثيرون مما لا تتسع المساحة لذكرهم.
فبغض النظر عن أسباب حبسهم ومع كل الاحترام لقرارات وأحكام القضاء المصرى، لكن يظل الأمل يحدونى أن أراهم أحرارا ليحصلوا على فرصة جديدة فى الحياة والإسهام فى رفعة هذا الوطن مهما كانت مشاكله أو همومه.
بعد ١٠ سنوات من الكتابة فى الشروق، وعبر أكثر من ٣٠٠ مقالة وما يتجاوز الـ٣٠٠ ألف كلمة وفرتها لى جريدة الشروق وكل القائمين عليها، عبرت عما يدور فى أفكارى ومشاعرى، لا يمكن ادعاء الحكمة المفرطة، ففى النهاية أخطأت فى بعض التقديرات أو فى التوقعات أو فى المواقف أو الأحكام، ولكنى غير نادم على أى منها لأنها فى النهاية عبرت عن تطور شخصيتى ورؤيتى للأمور وقتها وهذا سبب أننى سأظل مدينا لجريدة الشروق بالكثير لأنها وفرت لى هذه المساحة العظيمة التى كانت وما زالت مرآة أو ذاكرة لتطور حياتى ولتطور ظروف الوطن.
• • •
بين يوم الجمعة الموافق ١٠ أغسطس ٢٠١٢، وقت نشر أول مقالة لى فى هذه المساحة وبين يوم الأحد الموافق ٧ أغسطس ٢٠٢٢ وقت نشر هذه المقالة، مر عقد كامل من الزمان فى طرفة عين، تبدلت ظروفى وأحلامى وأماكن عملى ومصدر رزقى، تحولت من الثلاثينات إلى الأربعينيات، من أب لأطفال رضع أراهم كل يوم، لمراهقين لهم شخصيتهم المستقلة وأحلامهم وطريقتهم المختلفة فى التفكير ولظروفى الأسرية لا أتمكن من لقائهم سوى لأيام معدودة كل عام، تبدلت معارفى وتطورت خبراتى، وتغيرت علاقاتى العاطفية ومشاعرى، أخذتنى الحياة صعودا وهبوطا، ألما ولذة، فرحا وحزنا، كما تبدلت ظروف الوطن كثيرا ومعها تبدلت أحلامنا، لكن سأظل فخورا ببعض الإنجازات البسيطة والمتواضعة، فى مقدمتها أننى رغم البعد والهجرة التى أتمناها مؤقتة عن الوطن إلا أن مشاعرى وارتباطى به لم تهاجر مع جسدى أبدا، كما إننى فخور بقتالى واجتهادى للحصول على وظيفة أكاديمية ثابتة فى بيئة أكاديمية شديدة المنافسة لم يكن لى فيها أى خبرات سابقة، وأخيرا أشعر بالفخر لأننى مازلت أحترم نفسى وأحترم علمى وأحترم القراء!
فى ١٠ سنوات، تبدل الكثير لكن يبقى الأمل والحب دائما دافعين لمواصلة الحياة دون فقدان الشغف!