الخریف مرة أخرى - خولة مطر - بوابة الشروق
الإثنين 23 ديسمبر 2024 4:21 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الخریف مرة أخرى

نشر فى : الأحد 6 نوفمبر 2016 - 9:40 م | آخر تحديث : الأحد 6 نوفمبر 2016 - 9:40 م
أن تمضى حیاتك فى بلد لا یعرف إلا الفصل أو الفصلین هو أن تفتقد متعة تلون الفصول فتبقى أو تفضل أحیانا أن تلعن الفصول الأخرى. ولأن العرب أكثروا الغناء والتغنى بالربیع فراحت الفصول الأخرى خارج حساباتهم بل تحولت مرات إلى مجرد فصول بلا لون وطعم، أو ربما رسمها وكأنها تبعث على الكثیر من الكآبة.
أن تكون فى مدینة تعرف تلاوین الفصول هو أن تكون فى نیویورك بعیدا عن صخب تایم سكویر وقریبا من تلاوین سنترال بارك. هو أن تسقى عینیك بدرجات الأصفر من ورق الشجر المتساقط منه الذى یكسو الأرض وذاك الباقى على ما تبقى من الشجر.
الخریف الفصل الذى ظلمه الكثیرون منا ربما لقلة المعرفة به أو لأننا نستخدم تعابیر مثل خریف العمر ونربطه بكثیر من السلبیات غیر مدركین أن لكل مرحلة من العمر جمالها الخاص، خاصة وقد أصبح العالم مهووسا إلى حد الجنون بالمحافظة على الشباب من ازدحام المصطفین على عملیات التجمیل من نساء ورجال وحتى شباب فى مقتبل العمر خوفا من أن تسرق منهم تلك الملامح أو نتیجة لحملة بشعة قامت بها الكثیر من الشركات وبعض أطباء التجمیل الذین تحولوا من قسم أبقراط إلى مجرد تجار فى أسواق الاستهلاك. هى بعض أو تلك التعابیر والثقافة الجدیدة على مجتمعاتنا التى ساهمت هى الأخرى فى وضع الخریف فى تلك المرتبة من السواد والوجوم.
یفرض الخریف نفسه على المدن المتلونة، تلك التى تعرف أن هناك فصولا أربعة فى العام ولیس فصلا واحدا، صیفا كثیرا أو صیفا متوسطا أو صیفا قلیلا! أن یكون هناك صیف حار حد التخلى عن أكثر قطع من الملابس وهذا أمر یبدو طبیعيا جدا ویتماشى مع النمط الطبیعى للبشر وعكس من یتصور أن یتحمل غیض الصیف القاسى وهو أو هى تراكم قطع الأقمشة واحدة فوق الأخرى استعدادا لجهنم التى ستكون أقسى فى نهایة المطاف، غیر مدركین أن الله عند كل الأدیان أكثر رحمة من البشر وأنه غفور وهذه هى صفاته التى تعلمنا إیاها. نفس الكتب التى یقرءونها بشكل مقلوب أو معكوس وهى نفسها التى تحولهم إلى شكل محنط لا یعرف سوى الكراهیة.
***
تتخلى الأشجار فى كثیر من المدن ــ ونیویورك إحداها، عن كثیر من بقایا الخضار العالق من فصول سابقة. تتعرى الطبیعة وتعود لتكتسى بكل الألوان المشرقة من البرتقالى النارى حتى الأصفر الفاتح مرورا بالأحمر.. ترتسم ملامح جدیدة ولا أمر أجمل من أن ترسم الطبیعة المزاج العام لمدینة فهى القادرة على إخراج سكان وضیوف تلك المدینة من طقس إلى طقس آخر ملىء بالبهجة الدافئة فهذه كلها ألوان الدفء النادر فى زمن برودة المشاعر حتى التجمد!
تتساقط بعض الأوراق أو كثیرها فتغطى الأرض الأرصفة والشوارع والأعشاب فى الحدائق بكساء جمیل یخلق موسیقاها الخاصة والأقدام تسیر فوق الورق المتساقط فتخلق سمفونیة الخریف الخاصة به. لا یمكن أن تسمع كل هذه الموسیقى فى فصل آخر من فصول السنة.
كثیرون لا یدركون أن عملیة تعرى الأشجار أو تخفیفها من عبء الكثیر من الورق هو استعداد حقیقى لفصل الشتاء كما یفعل الكثیر من البشر وخاصة منهم المقیمین فى المناطق الجبلیة أو النائیة حیث یعدون المؤن ویخزنون الأطعمة. هكذا تفعل الأشجار تستعد للانتقال من فصل إلى آخر، حیث فى فصل الشتاء یقل الغذاء ویكون من الصعب علیها أن تقوم بتغذیة كل هذا الكم من الأوراق فتسقط لتبدأ حیاة جدیدة فى الشتاء ثم حیاة أخرى فى الربیع وهكذا.. فالطبیعة أكثر احتفاء من البشر وإدراكا لمعنى تلاوین الفصول، فیما یتصور بعضنا أن الربیع هو فصل الرومانسیة والحب والعشق.
ربما یجد الكثیرون أن فصل الخریف هو الطقس الأكثر استعداد للبوح تحت شجر تعرى من الكثیر وأرض رسمت الألوان الجمیلة لتكون حضنا دافئا للأحبة عند الزوایة وعلى الأرائك فى الحدائق الممتدة.. یقترب الأحبة لیلتحم الدفء بالدفء حیث تكون درجة المحبة الحقة.. تتعتق المشاعر فى حضور تلاوین الكون وكأنه هو الآخر یحتفى بهم.. هو الخریف إذن فأین یمكن أن تقوم الطبیعة برسم ملامح الإطار العام لاحتضان القلوب المتعبة.
***
یأتى الخریف على نیویورك لتغتسل الأرض بكثیر من فیض الغیوم التى لا تطیل البقاء فى سماء المدینة وما تلبث أن تبتعد فتعود الشمس تشرق لتخلق مزیجا من رائحة الشجر والأرض مع دفئها.. خلیط من بقایا الصیف مع الشتاء القادم.
فى الخریف ومع زخات المطر یعرف الكثیرون أن ذلك ما هو إلا لبعض الوقت وأن الشمس قادمة حتما فیبدو الاحتفاء بالمطر كالذى یغتسل لفرح قادم دوما، ومتلاحقین أو متلازمین المطر والشمس تطارد الواحدة الأخرى ومع كل حضور لأحدهما تتلون الأشجار أكثر وأكثر.
هو الخریف مرة أخرى لا یمكن أن یكون هناك ربیع دون خریف ولا معنى للصیف والشتاء دونه.. هو الفصل الذى ظلمه بعضهم فأكثروا فى هجائه دون أن یعرفوا طعمه الحقیقى فى المدن المتلونة. ربما أننا بحاجة أن نعرف أسراره لندرك حجم تلاوینه ودفئه اللامتناهى.
لا یمكن أن تكون فى نیویورك فى فصل الخریف وألا تتذكر «أوراق الخریف» تلك الأغنیة الرائعة التى لا تموت لـ«نكتنج كول»..
بعض الأغانى كأوراق الخریف حقا لا تموت أبدا على الرغم من أن بعضهم ربطه كثیرا بالموت فهو الحیاة التى لا تشبه أى حیاة أخرى ربما. فخریف نیویورك هو حقیقة من أجمل ما یمكن أن تمنحه مدینة صاخبة للزائر القادم من مدن لا تعرف أن للطبیعة فصول إلا فى الأغانى وبعض كتب الجغرافیا!

 

خولة مطر  كاتبة صحفية من البحرين
التعليقات