يرتبط السير لدى بجوانب مختلفة من الحياة. فمنذ بضع سنوات كنت قد عدت من أداء فريضة الحج مكتئبا لما رأيته ليس فقط من استغلال الفريضة من قبل الجمعيات التى تنظمها ولا تحويله لما يشبه موسم شراء ما قبل الكريسماس فى الدول الغربية، ولكن أيضا لما رأيته من تحول هذه البقعة المباركة إلى شىء لا يصدق بسبب البنيان المرتفع للغاية والمجاور للمسجد الحرام والذى يحيط بها من كل اتجاه حتى لتكاد تسمع أنات البيت المعمور واختناقه. ثم حدث أن دخلت فى موجة من الاكتئاب الممتد نتيجة اكتشافى أننى مثل الملايين غيرى من مصابى ارتفاع نسبة الكوليسترول فى الدم.
وبناء على نصيحة الطبيب، بدأت فى المشى بصورة منتظمة يوميا (كنت أتصور وقتها أنه يمكن بناء على ذلك فقط وبدون أدوية أن أصل لنسب معقولة من الكوليسترول ولم أفلح بالطبع بعد سنتين من المحاولة الجادة). وأننى كنت قد امتنعت عن ممارسة الرياضة فى النادى الذى ارتاده بعد أن قام النادى بتحويل الملعب الرئيسى من النجيل الطبيعى إلى آخر صناعى لا أستطيع المشى بمحاذاته حتى الآن وبعد عدة سنوات من تركيبه بسبب الروائح الناتجة عن المركبات والعوالق الصناعية التى يبثها فى الجو من حوله.
تحولت مسيرتى اليومية للصباح الباكر فى الحى ذى الأشجار والمبانى البديعة (التى تقل يوما بعد يوم). وشيئا فشيئا رأيت كيف أن المشى أحدث فارقا هاما فى حياتى، حيث أنه وعلى عكس الجرى يستغرق وقتا لا يقل فى الغالب عن نصف ساعة يوميا مما يتيح لى الفرصة للحديث مع نفسى وللتفكير فى أمور عديدة وملاحظة ما يحدث حولى. وبعد عدة سنوات من هذه المسيرة اليومية التى تحولت إلى طقس يومى رائع له أدعو الجميع خاصة فى هذه الأيام أن يمارسوا المشى بصورة منتظمة، ليس فقط للتخلص من الضغوط الجبارة التى نتعرض لها فى أعمالنا اليومية ولا لأن ذلك سيساعد فى حماية أحبائنا وأصدقائنا من فورات غضبنا الناتجة عن اختلاف الآراء مع عدم التروى والتفكير والتأمل، ولكن أيضا لأن تكراره يوما بعد يوم سيؤدى إلى شحذ عقولنا وتطوير أفكارنا.
ويرتبط السير أيضا بعملى حيث قمت بتحويل ما قرأته فى فصل بعنوان مسيرات المدينة من كتاب «ممارسات الحياة اليومية»، والذى يتحدث فيه عالم الاجتماع ميشيل دى سيرتو عن الأفراد الذين يمارسون أنشطتهم فى بيئات محددة عن طريق وسائلهم الخاصة. والبيئة هى المدينة التى هى نتاج استراتيجيات الحكومة والهيئات والمؤسسات والتى تنتج تصورا عاما أو خرائط محددة للمدينة ككل.
فى مقابل ذلك، فإن الإنسان الفرد فى داخل المدينة والسائر على قدميه غير مرتبط بهذه الخرائط أو التصورات الأولية. وهو هنا يعنى أن الإنسان يتأثر ولكن لا يتشكل بالبيئة المحيطة به. وبينما تركز الرؤية العامة للمدينة على النمط الجماعى للإرادة (أى لمجتمع المدينة) يتناقض ذلك مع النمط الفردى الذى ينحو إلى إعادة التملك وشخصنة الأشياء.
تشكل تحركات المشاة واحدا من تلك الأنساق الواقعية التى يصنع وجودها المدينة بالفعل لكنها ليس لها وعاءا ماديا (أى عمراني) محدد. إنها تصنع الفراغ أو الحيز المحيط بها ولا تضع نفسها داخل وعاء أو فضاء محدد. (أنظر(ي) مثلا لتناول الذكريات الصغيرة فى كتاب أرز بلبن لشخصين). وبهذا تحل الأثار (جمع أثر وهو ما يتركه الإنسان على الصحراء من أقدامه مثلا) محل الممارسة وارتباط تلك الأثار بالذاكرة الفردية تجعلها أيضا معرضة دائما للنسيان.
ممارسات وأفعال المشاة تؤدى إلى التحقق الفراغى للمكان، أى تحول المكان الجغرافى إلى حيز معروف وهى فى ذلك تشبه الكلام الذى هو تحقق صوتى للغة. ويتحول السير بذلك إلى حوار بين السائرين (ات) تكون به مواجهات وتناقض. ويتحول حيز المدينة (الفراغ) من خلال ممارسات السير التى من جزر منفصلة إلى حيزات مترابطة فى صورة أخرى. إن تجول السائرين(ات) فى المدينة يتحول فى جانب منه إلى طريقة للتعامل مع المعانى والربط بين المشاهدات والأماكن والأحداث والرموز والإشارات التى تدل عليها. وبهذا يتم إعادة صياغة المدينة وفهمها بصورة قد تبالغ فى أجزاء منها وقد تلغى أو تشوه أو تحرف أجزاء أخرى.
السير يحول المدينة إلى حيز حى ينتج من المرور به والتفاعل معه. وهذا التحول يولد الذكريات التى بطبيعتها شخصية ولكنها هى التى تصنع روح المكان أو الحى المعين بالمدينة. وتصبح الأماكن مجموعة من الحكايات المتفرقة هنا وهناك بصورة تمكن الإنسان من الارتباط بالمكان. السير فى حيز أو حيزات المدينة يصبح بطبيعته التكرارية ممارسة لذكرياتنا وارتباطنا بالمكان والتى تنبعث من طفولتنا والتى تتنوع بين الصمت ومشاعر أخرى ولكن البهجة تكون جزءا رئيسيا من تلك المشاعر التى تتكون فى سيرنا وتربطنا بما حولنا.