نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالًا للكاتبة رفيف رضا صيداوى، حللت فيه البعد السيسولوجى لتصريحات ترامب التى أعرب من خلالها عن رغبته فى شراء قطاع غزة وتحويله لريفييرا الشرق، وكيف أنها لا تعبر عنه شخصيا، وإنما تعبر عن ظاهرة عالمية منتشرة وهى صعود النيوليبرالية التى تنظر إلى العالم بقوانين السوق.. نعرض من المقال ما يلى:
عبر الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عن رغبته فى شراء قطاع غزة وامتلاكه، وعن إمكانية اشتراك دول عدة فى إعماره ليغدو ريفييرا الشرق، ما أثار سخط دول عدة حول العالم، باستثناء بعض حلفائه المخلصين كرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو.
لن تتناول هذه المقالة الأبعاد السياسية أو الجيوسياسية لتصريحات ترامب وحليفه، بل ستتناول الأبعاد السوسيولوجية لمديات هذا الجنون.
المسألة فى رأينا تتعدى ترامب نفسه، الذى اتهم رجل القانون الأمريكى فيليب ألستون، حكومته ذات يوم، وتحديدا خلال ولايته الأولى، بتعميق اللامساواة فى الولايات المتحدة الأمريكية من خلال مكافأة الأغنياء ومعاقبة الفقراء، قائلًا: «الحلم الأمريكى هو فى صدد التحول بسرعة إلى الوهم الأمريكى». فالمسألة تندرج فى إطار ما تمثله «الظاهرة الترامبية» فى المرحلة الراهنة، والتى نشهد خلالها قفزة تكنولوجية رقمية غير مسبوقة، لم تشهد الثورات الاقتصادية السابقة، وضمنا الثورة الصناعية، مثيلًا لها، سواء لجهة حجم التغيير الذى أحدثته على المستويات كافة، الاقتصادية والتقنية والسياسية والاجتماعية، أم لجهة طبيعة هذا التغيير، لا سيما سرعته الفائقة.
تندرج «الظاهرة الترامبية» إذن فى زمن بلغ فيه الاستقطاب العالمى والاستلاب الاقتصادى أوجه، فى إطار علاقات إنسانية تنحو بوتيرة سريعة نحو مزيد من التوتر والتوحش. بحيث إن الظاهرة الترامبية هذه ليست سوى تعبير عن الرأسمالية الحديثة بطابعها النيوليبرالى، التى تستكمل عملية الإطاحة بكل الجوانب الإيجابية التى رافقت تشكلها، لترمى العالم فى أسوار قوانين السوق لا غير.
• • •
دونالد ترامب وخطبه الموجهة إلى دول العالم كافة، والتى تستحق بالمناسبة تحليلًا خاصًا، بقدر ما تسببت (إلى جانب لغة الجسد لديه) فى وصفه بـ«الجنون»، ما هى فى الواقع إلا تعبير عن «الظاهرة الترامبية» التى تتخطى فى دلالاتها الشخص نفسه لتعكس مسار عالم ترسمه نيوليبرالية اليوم. فإذا ما توقفنا عند عبارة «سنمتلك غزة ونحولها إلى «ريفييرا» الشرق الأوسط» فقط، التى أطلقها ترامب وهزت العالم، ندرك مباشرة أنها تنطوى أولًا، فى الإطار اللسانى الخالص، على معنيى الامتلاك ومركزية القرار (قرار تحويل غزة)؛ وأنها تنطوى ثانيا، فى الإطار اللسانى الاجتماعى، على دلالات لا تحصى، تتدرج من نبرة الغطرسة والموقف الصلف إلى الإيعاز بأن اللعب فى عملية التواصل بات على المكشوف اليوم. وبالتالى، لا ضرورة للتورية أو للتحايل فى سبيل إيصال الرسالة (نحن/أى الأمريكيين نحكم العالم، وإسرائيل هى شريكتنا فى صوغه، كما نرتئى، وبحسب ما تقتضى مصالحنا المشتركة).
لا مكانة إذا ولا اعتبار لأهل غزة، ولا سعى أيضًا لتعزيز أى روابط إنسانية مشتركة، ولا حتى أى نية حوار من أى نوع كان، طالما أننا نحن أسياد هذا العالم، ومصلحتنا فوق مصلحة الجميع. نحن نأمر والعالم يمتثل. نحن نرشد ونوجه، وما على العالم إلا الاستجابة لتعليماتنا وخططنا السياسية، والجيوسياسية والاقتصادية، على مدى المستقبل القريب، والقريب جدا. وهى خطط أقل ما يستشف منها، لا سيما ما يتعلق منها بالشرق الأوسط، هو تحويله إلى مشروع عقارى، عنوانه «مدن للبيع» منسجم مع الزيادة السريعة فى حصة مداخيل الرأسمال والملكية فى الزمن الرقمى. يجرى ذلك فى سياق ثقافى رأسمالى مواكب للتحولات النوعية للرأسمالية، يدعم استساغة القدرة المطلقة للنيوليبرالية والرضوخ لكل مظاهرها وكأنها من البديهيات، وتتحدد أبرز سماته بـ:
أولًا: تكريس الإنسان ذى البعد الواحد، المستلَب نتيجة هيمنة العقلانية العلمية التقنية، بعكس توصيات العديد من الفلاسفة، كالفيلسوف الاسكتلندى ديفيد هيوم الذى دعا إلى عدم الانجرار إلى أى من الانحرافات فى حيوات البشر، لأن الطبيعة البشرية برأيه تقول: «أطلق عنان هواك بالعلم، لكن دع علمك يكن إنسانيًا (...) فكن فيلسوفًا، لكن، وسط فلسفتك كلها، ابق إنسانًا».
ثانيًا: تكريس النزعة المادية فى الثقافة خدمة للرأسمال، وما يترتب عن ذلك من تحويل الإنسان إلى مجرد آلة للاستهلاك والإنتاج.
ثالثًا: تكريس النرجسية وما يواكبها من حساسية سطحية تجاه العالم وعدم اكتراث عميق تجاهه؛ وهو أمر لطالما حذر الفيلسوف الفرنسى جيل ليبوفتسكى من اتجاهه المتزايد نحو «فردانية خالصة» بدلًا من فردانية زمن الحداثة التى حملت بعضا من قيم «الانضباط» و«المناضلة» و«البطولة» و«الوعظ الأخلاقى»؛ إذ تغدو النرجسية هذه «متحررة من آخر القيم الاجتماعية والأخلاقية»، وبالتالى لا «نجد أنفسنا فى واجب العيش من أجل شىء آخر من غير ذواتنا».
• • •
مع سمات الثقافة هذه، تغدو العواطف الإنسانية محكومة بمنطق السوق والمنفعة والمصلحة ومشروطة به، شأنها فى ذلك شأن المعارف التى ترتقى بإنسانية الإنسان مثل العلوم الإنسانية، واللغات القديمة، والأدب، والفنون، التى تغدو بحسب الباحث الإيطالى نوتشيو أوردينه كماليات لا فائدة منها ولا لزوم لها، لأنها لا تستجلب النفع المادى، فتتحول الأمكنة، من بين أشياء كثيرة أخرى تطاولها تلك التحولات، إلى عقار تحدد السوق قيمته، لا مقدار المشاعر التى يثيرها، أو الذكريات التى يختزنها، أو لمسات الناس الذين أقاموا فيه، ولا أفعال رواده. وتغدو الجذور وكأنها تنبت فى السماء وليس فى الأرض بعكس ما آمن به يوسف حبشى الأشقر والأدباء والشعراء، فى أن الأمكنة تزخر بمضامينها الإنسانية قبل أى شىء آخر، وبذاك الإحساس العميق والمكثف بوجودها، وبكونها محفورة فى الذاكرة الجمعية.
فى ظل كل هذا التوحش الرأسمالى الذى يبلغ مستويات لا سابقة لها من الحدة والعنف، والتى يعبر عنه زمن «الترامبية» خير تعبير، لفتتنى مقالة للكاتب فى صحيفة «فايننشال تايمز اللندنية» إيفان كراستيف بعنوان «مفتاح التعامل مع ترامب هو ألا تلعب أوروبا دور الضحية» (نشرت فى 16 يناير 2025)، حيث توقف الكاتب كراستيف عند دراسة أجراها عالما الاجتماع بيتى غريسون وموريس ستين فى العام 1981 حول الطريقة التى يختار فيها المعتدون ضحاياهم، مستندين إلى اختبار أجرياه من خلال قيامهما بتركيب كاميرا فيديو على رصيف مزدحم فى نيويورك وتصوير المارة، وعرضه من ثم على عدد من السجناء الموقوفين، بسبب أعمال عنف مثل السطو المسلح، والاغتصاب والقتل، ليصار بعدها إلى الطلب من هؤلاء المعتدين/ السجناء تقييم المارين بحسب سلم علامات يتراوح بين 1 (تقييمهم للذين يسهل الاعتداء عليهم وتسليحهم) و10 (تقييمهم للوضعية التى يصعب جدًا إدارتها)، ليتبين أن هؤلاء السجناء اختاروا الشخص نفسه الذى يشكل بنظرهم هدفًا سهلًا. المذهل فى النتيجة تمثل فى أن اختيارات السجناء لم تأتِ بناء على الجنس أو لون البشرة أو العمر كما هو متوقع.. إلخ، بل بناء على رصدهم لغة جسد المارة وطرائق السير لديهم أو ما شابه ذلك، أى بناء على ما تعكسه تلك اللغة من ضعف لدى المارين، والذين يتصرفون كضحايا.
استعاد إيفان كراستيف هذه الدراسة على حد تعبيره، فى الوقت الذى كان يفكر بالاستراتيجية التى ستتبناها أوروبا فى مواجهة الإدارة الأمريكية الجديدة، ولاسيما بعدما قرر ترامب أن يكشف عن أنيابه. فماذا عنا نحن العرب؟
النص الأصلى:
https://rb.gy/8pg69f