صدمنى خبر وفاة الفنان التشكيلى والنحات الصديق حازم المستكاوى وحزنت كثيرًا لأنى لم أعرف نبأ مرضه من الأصل، لذلك فقد اعتبرت موته بمثابة خبر كاذب إلى أن وصلت مسجد الخلفاء الراشدين بمصر الجديدة فوجدت كل من أعرفهم هناك.
نفس الوجوه التى كانت ترافقه أمامى فى سهرات وسط البلد طوال أكثر من ربع قرن، شلة لم تغير أفرادها أبدًا، تتسع لكنها لا تضيق، يندر أن تجد بينهم شخص وحيد، فهم يظهرون جماعة، وينصرفون جماعة يتمتع أفرادها برحابة لا تنتهى وقدرة لا نهائية على الضحك والابتسام الودود.
تحسهم جميعا ثمارًا لشجرة واحدة هى شجرة الخيال، لم ينشغلوا أبدًا بالنميمة؛ لأنهم امتلكوا الثقة فى مواهبهم وظلوا على مسافة آمنة من كل أشكال الصراع وهى خصلة نادرة.
وكان حازم يشعرنى دائمًا بأنه رمانة الميزان لهذه الشلة المبدعة التى كان معنية بكل أشكال الممارسة الفنية، وتمد بصرها خارج الأسوار الضيقة وتستطيع أن تجمع بين صداقة عبد الهادى الوشاحى وصداقة آدم حنين على ما بينهما من فوارق فى الطباع وأساليب العمل.
عرَّفنى الصديق الراحل نزار سمك على حازم المستكاوى خلال المدة القصيرة التى قضاها مديرًا لمتحف الفن الحديث، لكنها كانت مدة كافية لكى يدرك معضلة العمل الثقافى فى مصر وطابعه البيروقراطى الذى جعل من مهمة الإصلاح مهمة صعبة.
وعلى الرغم من ذلك لم يتوقف المستكاوى أبدًا عن التفكير والبحث فى مجال السياسات الثقافية بأمل العثور على فكرة تساعد فى التغيير.
وأمدته فترة العيش فى النمسا بمعارف واسعة لكنها لم تقطع صلته أبدًا بمصر وما يجرى فيها.
وحين اتخذ قراره بالعودة والاستقرار فى الإسكندرية مع زوجته الفنانة نهى ناجى، أعطى ظهره للقاهرة فى مغامرة استثنائية احتاجت إلى شجاعة من نوع خاص، لكنه فعلها باقتدار ثم قدم نموذجًا فريدًا فى الأبوة المختارة، فتعامل مع أولاد زوجته بمحبة واضحة للجميع وعاملهم كأبناء عصب صريح.
حين أعود للرسائل المتبادلة بيننا لا أجد فيها إلا ملفين رئيسيين، الأول يتعلق بتصوراته عن العمل الثقافى ودعواته المتكررة لى بالاشتباك الصحفى مع بعض الأمور والملفات التى أعتقد أن فتح أبواب النقاش حولها يمكن أن يحسن الأحوال ويغير الأمور.
وأشهد أنه كان يفكر بنزاهة استثنائية وقدرة جبارة على التجرد ولم تكن له أية أغراض شخصية فى أى قضية من القضايا التى أراد طرحها للنقاش.
أما الملف الثانى فظل دائمًا يدور حول انشغاله بدراسة أولاد (نهى) الذين كانوا أبناء له وظل كل ما يعنيه هو الكيفية التى تضمن استمرار تفوقهم فى دراسة الفنون وفى ظنى أنه لعب دورا فى إرشادهم إلى هذا الطريق وكان من أكثر الناس وعيًا بصعوبته إلا أنه ظل يعتز بالمسار الذى اختاره داخل الحركة الفنية.
لم يكن حازم فى إنتاجه الفنى نحاتا يميل إلى النحت بالخامات التقليدية أو يلجأ إلى العمل بالأساليب القديمة، لأنه ظل يفكر فى نفسه كفنان معاصر، ترتبط أعماله بتساؤلات وانشغالات فلسفية عميقة أكثر ما ترتبط بالرغبة فى التعبير الفنى.
وطوال سنوات إقامته فى أوروبا كان دائم التفكير فى الأساليب التى نشأت داخل الثقافة العربية التقليدية أملاً فى تطويرها وإعادة الاعتبار لقيمها الجمالية والتشكيلية، لذلك طور انشغالاته بموضوع التعبير الفنى واتجه إلى البحث المتعمق فى جماليات الفن الإسلامى وأعاد النظر فى استعمال الحرف العربى واستطاع أن يقدم أعمالاً فريدة فى سياق قدرتها على تمثل موضوع الهوية استنادًا على أساس صحيح يقوم على وضع الثقافتين فى علاقة تجاور وليس فى علاقة تراتبية تضع تجربة الفن الأوروبى فى مكانة أعلى من غيرها.
لم يكن حازم فى طموحه الفنى من أولئك الذين يفرطون فى الحديث عن الهوية، لأنه انشغل بممارسة المعنى الكامن فيها، كأنما قد تمثل عبارة محمود درويش القائلة بأن «الهوية بنت الولادة لكنها، فى النهاية إبداعُ صاحبها، لا وراثة ماضٍ».
على الصعيد الشخصى أفتقد بموت حازم المستكاوى صديقًا لازمنى لسنوات وساعدنى كثيرًا فى تخطى عثرات شخصية كثيرة، وعلمنى تذوق الفنى المعاصر وأمدنى طوال الوقت بالأدوات النقدية والمرجعيات التى تساعد فى تأهيلى وتحسن من مستوى معرفتى.
لم يتوقف طوال سنوات عن الحوار معى فى أدق الأمور التى كانت تشغله وظل فى لقاءاتنا السكندرية والقاهرية يشعرنى بقيمة الصداقة وأهمية تجديد دوافعها بإثارة النقاش حول قضايا مشتركة تعمق من أواصر المودة ومساحة الفهم المتبادل وهى مساحة ستنقص كثيرًا بعد فقده الخاطف، لكن العزاء أن سيرته ظلت ناصعة وصفحته خالية من الضغينة.
ألف رحمة ونور