تتيح خطة السلام التى أعلنتها الولايات المتحدة فى أكتوبر ٢٠٢٥، والتى صيغت استنادا إلى رؤية إدارة ترامب لتسوية الصراع الفلسطينى ـــ الإسرائيلى، فرصة نادرة أمام أوروبا لتفعيل حضورها السياسى والاقتصادى فى ملف الشرق الأوسط بعد سنوات من التهميش النسبى. فالدول الأوروبية، التى طالما تمسكت بخطاب دعم «حل الدولتين» ودافعت عن مبادئ القانون الدولى الإنسانى فى الأراضى الفلسطينية، تجد نفسها اليوم أمام استحقاق عملى يتمثل فى المشاركة فى تنفيذ ترتيبات السلام الخاصة بغزة وإعادة إعمارها، بما يشمل الجوانب الأمنية والسياسية والاقتصادية والإنسانية. ويتطلب ذلك مزيجا من الواقعية السياسية والقدرة على استثمار الأدوات الأوروبية المتاحة، فى وقت تتقاطع فيه المصالح الأوروبية مع أولويات الولايات المتحدة وإسرائيل والدول العربية المعنية.
يبدأ الدور الأوروبى الممكن من الإدراك بأن إعادة إعمار غزة لن يتحقق دون جهد جماعى منظم وممول على نطاق واسع. فقد أسفرت الحرب الطويلة التى شهدها القطاع عن تدمير شامل للبنية التحتية المدنية والاقتصادية، وعن نزوح مئات الآلاف من السكان داخله، وهو ما يجعل الحاجة إلى موارد مالية ضخمة أمرا لا مفر منه. تمتلك أوروبا، من خلال الاتحاد الأوروبى والدول الكبرى مثل ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة وإيطاليا، القدرة على توفير هذه الموارد عبر برامج المساعدات الثنائية ومتعددة الأطراف، وكذلك عبر توجيه تمويلات من بنك الاستثمار الأوروبى والمؤسسات المالية الدولية. ويمكن للأوروبيين أن يربطوا دعمهم المالى بآليات شفافة للإنفاق والإشراف الدولى المشترك على إعادة الإعمار، بما يضمن وصول الموارد إلى السكان وتحقيق التنمية المستدامة دون أن تُستغل لأغراض سياسية أو عسكرية.
إلى جانب البعد المالى، تملك أوروبا خبرة مؤسسية متقدمة فى بناء القدرات الإدارية والأمنية فى مناطق ما بعد النزاعات، وهى خبرة يمكن توظيفها فى غزة خلال مرحلة الانتقال إلى ترتيبات الأمن الجديدة التى نصت عليها الخطة الأمريكية. فتجربة الاتحاد الأوروبى السابقة فى بعثة «إيوبول كوبس» لمساندة الشرطة الفلسطينية بين عامى ٢٠٠٦ و٢٠١١، وتجربة بعثة الرقابة الأوروبية على معبر رفح، تمثل أساسا يمكن البناء عليه لتشكيل بعثات أوروبية مدنية وأمنية جديدة تساعد على تدريب الأجهزة الأمنية الفلسطينية المحلية والإشراف على إدارة الحدود والمعابر. مثل هذا الدور يسهم فى تثبيت الاستقرار ويمنح الأوروبيين حضورًا ميدانيًا يرفع من قدرتهم على التأثير فى مسار التسوية.
• • •
أما على المستوى السياسى، فإن أوروبا تستطيع أن تؤدى دور الوسيط المكمّل للولايات المتحدة. فبينما تظل واشنطن صاحبة الكلمة العليا فى رعاية الاتفاق ومتابعة تنفيذه، فإن المصداقية الأوروبية لدى الأطراف الفلسطينية والعربية، الناتجة عن موقفها التقليدى الداعم لحقوق الفلسطينيين، يمكن أن تُستثمر لخلق قنوات اتصال فعالة وتسهيل تنفيذ البنود الأكثر حساسية فى الخطة. ويمكن للدول الأوروبية الكبرى، منفردة أو من خلال الاتحاد الأوروبي، أن تدعم حوارًا فلسطينيًا ـــ فلسطينيًا لإعادة بناء مؤسسات الحكم فى غزة وإيجاد صيغة للتنسيق بين السلطة الفلسطينية والإدارة المحلية الجديدة التى يُفترض أن تتشكل فى القطاع وفق الخطة. كما تستطيع أوروبا أن تساهم فى تشجيع إسرائيل على قبول ترتيبات أمنية وإنسانية أكثر توازنا، من خلال أدواتها الاقتصادية والدبلوماسية، بما فى ذلك العلاقات التجارية واتفاقيات الشراكة.
فى المجال الإنسانى، يظل لأوروبا دور محورى لا غنى عنه. فهى أكبر مانح منفرد للمساعدات الإنسانية للفلسطينيين منذ التسعينيات، وتملك شبكة واسعة من المنظمات غير الحكومية والمؤسسات الخيرية العاملة فى غزة والضفة الغربية. فى ظل خطة السلام الجديدة، يمكن لهذه الشبكات أن تكون رافعة لتثبيت الاستقرار الاجتماعى من خلال برامج التعليم والصحة والإسكان وخلق فرص العمل. كما يمكن للاتحاد الأوروبى أن يضطلع بدور تنسيقى بين وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية العاملة فى القطاع لضمان التكامل وتجنب الازدواجية فى الجهود. هذا الدور الإنسانى يتيح للأوروبيين الاستمرار فى الارتباط بالمجتمع الفلسطينى على المستوى الشعبى، ويعزز من مكانتهم كشركاء موثوقين.
ولا يقل البعد الاقتصادى أهمية عن غيره. إذ يمكن لأوروبا أن تسهم فى ربط غزة بالاقتصاد الإقليمى والدولى من خلال دعم مشاريع البنية التحتية الكبرى ــــ كمشاريع الطاقة والمياه والاتصالات ــــ وتشجيع الاستثمارات الخاصة فى المناطق الصناعية والمشاريع الصغيرة والمتوسطة. إن قدرة الأوروبيين على توفير الضمانات والتأمين للمستثمرين وعلى تحفيز التجارة مع القطاع تمنحهم أدوات ملموسة للمساعدة فى الانتقال من الاعتماد على المساعدات إلى التنمية المستدامة. كما يمكن للدول الأوروبية أن تقدم خبرتها التقنية فى مجالات الإدارة البيئية وإعادة تدوير الموارد وتخطيط المدن، وهى مجالات ضرورية لبناء اقتصاد غزة فى مرحلة ما بعد الحرب.
ومن الناحية الأمنية، لا يقتصر دور أوروبا على تقديم المساعدة التقنية، بل يمكنها أن تساهم أيضا فى بناء منظومة إقليمية أكثر استقرارا. فاستقرار غزة مرتبط عضويا بأمن مصر وإسرائيل ولبنان، وبمسار التفاهمات مع القوى الإقليمية كالأردن وقطر وتركيا. من هنا، يمكن للدول الأوروبية أن تشارك فى آليات المراقبة الإقليمية أو فى نشر بعثات مراقبة دولية على خطوط الفصل والمعابر، بما يضمن التزام جميع الأطراف بالترتيبات الأمنية الجديدة. كما يمكنها أن تقدم دعما استخباريا ولوجستيا فى مكافحة تهريب السلاح وضبط الحدود، بالتنسيق مع الأمم المتحدة والدول الإقليمية، مع الحفاظ على الطابع المدنى والإنسانى للوجود الأوروبى فى الميدان.
يُضاف إلى ذلك أن أوروبا، إذا أحسنت تنسيق مواقفها الداخلية، تستطيع أن تضفى شرعية دولية على تنفيذ الخطة الأمريكية من خلال مجلس الأمن والأمم المتحدة. فالدول الأوروبية الخمس الأعضاء فى المجلس الدائم والمؤقت يمكنها الدفع نحو تبنى قرارات أممية تدعم إعادة الإعمار وتضع إطارا قانونيا دوليا للترتيبات الأمنية والإدارية فى غزة. كما يمكنها أن تعمل على ضمان التزام الخطة بمبادئ القانون الدولى وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، بما يحافظ على التوازن بين متطلبات الأمن الإسرائيلى وحقوق الشعب الفلسطيني. بهذا المعنى، لا تكون المشاركة الأوروبية مجرد تبعية للموقف الأمريكى، بل مساهمة مستقلة تضبط الإيقاع الدولى وتمنع انحراف الخطة عن أهدافها المعلنة.
• • •
من جهة أخرى، يُتوقع أن تواجه أوروبا تحديات داخلية وخارجية أثناء قيامها بهذا الدور. فالتباينات بين الدول الأعضاء بشأن التعامل مع إسرائيل أو مع حركة حماس قد تعيق بلورة سياسة موحدة، كما أن بعض القوى الإقليمية قد تنظر إلى الدور الأوروبى بعين الشك خشية أن يكون امتدادا للنفوذ الغربى التقليدى. غير أن معالجة هذه التحديات ممكنة من خلال اعتماد مقاربة تدريجية تقوم على بناء الثقة والتنسيق الوثيق مع الأطراف العربية المعنية، وخاصة مصر والأردن والسعودية. هذه المقاربة تعزز فرص القبول الإقليمى بالدور الأوروبى وتمنحه بعدا تكامليا لا تنافسيا.
إن النجاح الأوروبى فى المساهمة فى تنفيذ خطة السلام يعتمد فى النهاية على مزيج من الحذر والجرأة: الحذر فى عدم الانخراط فى ترتيبات ميدانية دون ضمانات واضحة، والجرأة فى تحمل مسئولية سياسية وأخلاقية تجاه دعم تسوية واقعية للصراع. فالقارة التى عانت من تراجع دورها فى الشرق الأوسط أمام الولايات المتحدة وروسيا وتركيا تجد فى هذه اللحظة فرصة لإعادة صياغة حضورها من خلال دبلوماسية عملية قائمة على التنمية والاستقرار.
إن أوروبا قادرة على أن تكون شريكًا فاعلًا فى تنفيذ خطة السلام فى غزة، لا مجرد ممول جانبى أو مراقب من بعيد. أدواتها الاقتصادية والإنسانية والسياسية تؤهلها لذلك، ومصالحها المباشرة فى استقرار جوارها الجنوبى تحفزها على الانخراط. وإذا نجحت فى توحيد مواقفها وتحويل خطابها القيمى إلى سياسات واقعية، فقد تساهم بالفعل فى فتح صفحة جديدة من التفاعل الإيجابى بين الغرب والعالم العربي، قائمة على التنمية والأمن المتبادل بدلاً من الصراع المستمر.